الرئيسية » خطابات الرئيس محمود عباس »

خطاب السيد الرئيس أمام البرلمان التركي في أنقرة

13 تشرين الثاني 0207

خطاب السيد الرئيس أمام البرلمان التركي في أنقرة

13/11/2007

السيد بولنت آرنيج رئيس البرلمان،

فخامة الرئيس عبدالله غول،

دولة الرئيس رجب طيب أردوغان،

الأخوات والأخوة النواب،

السادة الحضور الكرام،

 

تلقينا بامتنان بالغ دعوتكم الكريمة للوقوف أمام برلمانكم، حصن ديمقراطيتكم الراسخة، وحارس تعدديتكم السياسية والفكرية، هذه التعددية التي تشكل اليوم، وخاصة لنا في الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديداً، نموذجاً نأمل مخلصين استلهامه وشق الطريق نحوه..

 

إن شعبنا الفلسطيني وكل شعوب منطقتنا تتطلع بإعجاب كبير إلى المثال الديمقراطي والحضاري الرائع الذي أعطته تركيا في ترسيخ سلطة الشعب، والتداول السلمي للحكم عبر وضع مصالح تركيا وتقاليدها خارج أي صراع حزبي وسياسي مهما بلغ واشتد.

 

لقد قدمت تركيا ومن بوابة هذا البرلمان درساً راسخاً في ثبات الجمهورية ومقدرتها على جعل تنوع اتجاهات أبنائها قوة وعزة لها ولشعبها..

 

لقد حدانا الأمل، ونحن نجذّر الديمقراطية في بلادنا، ونشّرع لولادة نظام سياسي فلسطيني قائم على الشرعية الانتخابية كجزء لا يتجزأ من معركة الاستقلال وبناء نواة الدولة الفلسطينية المستقلة، من خلال الانتخابات العامة، أن نكرس تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، وأن نجعل من الشعب المرجعية الأولى والأخيرة لشرعية الحكم في بلادنا، كما هو حاصل اليوم في تجربتكم العظيمة.

 

ولكن مع الأسف الشديد، وبالرغم من جميع الجهود المضنية التي بذلناها نحو هذا الهدف، وما عانيناه في مواجهة بعض الضغوط الدولية، ومن حصار سياسي ومالي كان يهدف إلى إحباط هذه التجربة الرائدة في محيطنا، إلا أن بعض القوى داخل مجتمعنا لم تلتزم بالعملية الديمقراطية برمتها، ونسفت الأساس الدستوري والقانوني الذي جاءت على أساسه، وقوضت بالعنف والقتل والانقلاب السياسي والعسكري ورفض العودة للشعب، كل ما حاولنا أن نشيدّه استلهاماً لتجربتكم الديمقراطية الرائدة.

 

السادة الرؤساء، السادة النواب،

 

لقد منح الله تركيا موقعاً جغرافياً استثنائياً بتوسطها للقارتين الآسيوية والأوروبية، وقد أدرك قادتها هذه الهبة التي مكنت تركيا من أن تشكل جسراً ثقافياً وسياسياً يؤسس لعالم متنوع ومتعدد ولكنه عالم إنساني يمكن أن يؤلف لوحة متجانسة ومتكاملة رغم اختلافاته الخصبة.

 

وعلى هذا الأساس، وبإدراكنا الدائم لمكانة ودور تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإننا نعرب أولاً عن اعتزازنا وفخرنا الشديد بالعلاقات السياسية والاقتصادية دائمة التطور بيننا، وبموقف تركيا الراسخ والداعم للقضية الفلسطينية، ولحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة إلى جانب إسرائيل وعلى أساس قرارات الشرعية الدولية.

 

وبإمكان تركيا التي تقف بنزاهة وثبات على المسرح الدولي والإقليمي أن تلعب دوراً مؤثراً في حل الصراع الفلسطيني، والعربي- الإسرائيلي، لما تملكه أيضاً من علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية.

 

إن دوركم إلى جانب العديد من دول العالم ومختلف الكتل الدولية، والهادف الى دفع مسيرة السلام والتسوية في المنطقة، سوف تزداد الحاجة إليه ونحن على أبواب انعقاد مؤتمر السلام في انابوليس في نهاية هذا الشهر.

 

وسوف يترتب على نتائج هذا المؤتمر، إما تعزيز دور وموقف قوى الاعتدال والسلام في منطقتنا، أو انتشار الإحباط واليأس مما يقوي دور قوى التطرف والاحتلال والحروب..

 

أنا لست في حاجة الى التأكيد على أن انتمائنا إلى معسكر قوى الاعتدال ونبذ التطرف هو عنصر مشترك بيننا وبينكم أيها الإخوة، لأن مصالح شعوبنا في اطار عالم اليوم بكل تناقضاته والتحديات التى تواجهه تدفعنا إلى السعي لانتصار نهج الاعتدال والمصالحة في معالجة جميع الصراعات المعقدة.

 

هذا كله علاوة على أننا ننتمي إلى تراث ثقافي وديني وإنساني يؤكد على قيم الوسطية، وينطلق من قيم تبشر بالمساواة بين البشر والشعوب، وتنكر أسلوب العدوان والعنف واعتداء شعب على حقوق شعب آخر، أو احتلال أرضه وإخضاعه لأسوأ أشكال التنكيل والتمييز والقهر.

 

لكل هذه الاعتبارات فإننا نبذل أقصى جهودنا حتى نضمن نجاح مساعي السلام الراهنة، ورحبنا بما تقوم به اللجنة الرباعية الدولية، وكذلك مبادرة الرئيس بوش ورؤياه في حل شامل وسلام دائم على أساس دولتين، دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل.

 

كما ساندنا الدور الذي تقوم به وزيرة خارجيته الدكتورة رايس والتي تبذل جهوداً مميزة حتى تنطلق العملية السياسية وصولاً إلى اتفاق سلام نهائي يقود إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي بدأ عام 1967 وحل مختلف جوانب الصراع الأخرى..

 

إن أي تعامل فيه استخفاف بهذه الفرصة الاستثنائية الماثلة أمامنا، أو أي تعطيل لها من خلال التمسك بمواقف ضيقة الأفق، ورغبة في الإبقاء على سياسة الأمر الواقع، سوف تكون له آثار سلبية عميقة الأثر وبعيدة المدى، على مجمل العلاقات في المنطقة بأسرها.

 

يجب أن لا تضيع هذه الفرصة الجيدة والاستثنائية في تاريخ هذا الصراع والتي تتوفر فيها كل شروط النجاح.

 

لقد أكدنا دائماً أن أسلوب الاحتلال والتوسع الاستيطاني وبناء جدران العزل لن يجلب السلام والأمن لأحد. كما أن استمرار اعتقال إثنا عشر ألف فلسطيني يبقي الأجواء مشحونة ومتوترة، ويمنح تربة خصبة لدورات العنف حتى تنفجر من جديد.

 

إننا نرغب في أن ترى الأجيال القادمة، الفلسطينية والإسرائيلية والعربية، مستقبلاً يخلو من أي تهديد ومن أية فرصة لتجدد الحروب.

 

وعندما نركز على ضرورة حل القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، فإننا لا ننسى أن مساعي السلام الشامل في المنطقة لا بد أن تغطي كذلك قضية الأراضي اللبنانية والجولان السوري المحتل، وأن تكون معالجة قضية اللاجئين من شعبنا الفلسطيني والذين أصبح عددهم يتجاوز أربعة ملايين حتى الآن معالجة جذرية تستند إلى الشرعية الدولية.

 

لا بد أن يرى العالم وجميع الأطراف المعنية بالصراع، إن الموقف العربي يوفر أساساً فعلياً أكثر من أي وقت مضى للدخول في تحقيق سلام شامل يعم المنطقة بأكملها.

 

إن مبادرة السلام العربية بجميع عناصرها، والتي أيدها العالم بأسره سواء من خلال قرارات صادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو من خلال تبني خارطة الطريق ذاتها لمبادرة السلام، تظهر جدية عالية واستعداداً عربياً حقيقياً لتحقيق تسوية تخلق فرصاً لعلاقات من نوع جديد أكثر انفتاحاً بين جميع دول المنطقة، وتفتح الباب لانطلاق مشاريع تنمية إقليمية وتعاون اقتصادي متقدم، بالإضافة إلى إزالة السبب الرئيسي للتوتر والإنفجار في المنطقة على مدى العقود الماضية، والذي لا يزال حتى الآن وراء كل ما نشهده من صراعات ودورات توتر وعنف وحروب متعاقبة.

 

ولا ريب أن مدينة القدس تحتل مكاناً بارزاً في التسوية المطلوبة، ليس بسبب أهميتها للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وإنما للديانات التوحيدية الثلاث.

 

وفي الوقت الذي نؤكد فيه على أن القدس الشرقية هي جزء لا يتجزأ من أرضنا المحتلة عام 1967، فإن الدولة الفلسطينية لن تكون لها عاصمة غير القدس الشرقية.

 

ونحن ندرك بل ونرحب بمساهمة الدول الإسلامية الشقيقة والعضو في منظمة المؤتمر الإسلامي في توفير العناصر اللازمة لنجاح الحل الخاص بالقدس في المستقبل، وخاصة في إطار ضمان حقوق جميع الأديان، والمرور المفتوح إلى كل المواقع المقدسة، ومنع أية تعديات أو انتهاكات تخلق أجواء من التوتر وإشعال نيران العداء والمواجهة على أساس ديني..

 

إن معاناة مدينة القدس اليوم بسبب الحصار حولها ومحاولات إحاطتها بجدار فصل يعزلها عن محيطها، علاوة على تقييد حق مواطنينا كمسلمين وكمسيحيين في زيارة الأماكن المقدسة في القدس، بالإضافة إلى استمرار مساعي تغيير طابعها التاريخي والثقافي ولإلغاء تعدديتها، هي كلها أمور جوهرية، تمثل بالنسبة لنا ولجميع الأطراف والقوى في المنطقة مقياسا "فعليا" لمدى الجدية في التوجه نحو إنهاء عقود الاحتلال والقهر والعمل من أجل الوصول إلى مستقبل يسود فيه التسامح والمساواة الإنسانية.

 

السيد الرئيس،

 

لا ريب إنكم تشاركوننا القلق تجاه الأوضاع في عدد من دول المنطقة كما تشاركوننا كذلك الرغبة، بأن نرى نهاية للصراعات الداخلية، وبأن يسود السلام في العراق الشقيق وأن يتمكن شعبه الشقيق من وضع حد للمعاناة الهائلة التي يمر بها، وأن يحافظ على وحدة ترابه الوطني واستقلاله ودوره البارز في ضمان السلام ومسيرة التقدم في المنطقة بأسرها..

 

ونحن نتمنى ونسعى بما لدينا من طاقات لكي يتمتع لبنان بالسلام وأن يحمي نظامه الدستوري وتجربته الديمقراطية واستقلاله.

 

وقد أكدنا دائماً أن شعبنا الفلسطيني الذي يقيم مؤقتاً في لبنان بانتظار لحظة عودته إلى وطنه، لن يكون سوى قوة تدعم دور الدولة اللبنانية وسيطرتها على أراضيها الوطنية وأهدافها في حماية لبنان ومستقبل شعبه..

 

ويجب أن تثقوا أيها الأصدقاء الأعزاء أننا عملنا في الماضي وسنظل نعمل من أجل معالجة مشاكلنا الداخلية، بروح التمسك بالديمقراطية والتسامح والوحدة.

 

ونحن نؤكد هنا أن أية مصالحة أو حوار في ظل قبول الانقلاب العسكري كأمر واقع سوف يقود إلى تعميق الهوة وتكريس الانفصال، ويشجع الانقسامات، ولهذا أؤكد من على هذا المنبر المحترم والشقيق إننا نمد يدنا للحوار، شريطة احترام الشرعية والعودة عن الإنقلاب، وليس استخدام الإنقلاب ونتائجه الكارثية ورقة ضغط ومساومة تحت اسم الحوار غير المشروط..

 

أشكركم دولة رئيس البرلمان، أشكركم يا فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء، وأشكر جميع أعضاء البرلمان الموقر على إتاحة الفرصة لي للحديث معكم، ومن خلالكم مع شعب تركيا الشقيق، الذي تربطنا به أوثق روابط الأخوة، وعلاقات راسخة تنطلق من التاريخ نحو المستقبل.

 

وأود أن أؤكد لإخوتي في تركيا العزيزة باسم كل فلسطيني وفلسطينية أننا سنظل ننظر إليكم وإلى تجربتكم في الديمقراطية والبناء والعمل السياسي الرصين والمسؤول كمثلٍ يُحتذى به ويُحتَرم .

 

 وإلى أن نلتقي مرة أخرى، لكم مني كل المحبة والتقدير.