كلمة الرئيس محمود عباس في مؤتمر الأزهر العالمي لنُصرة القدس
بسم الله الرحمن الرحيم
" فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" صدق الله العظيم
الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف،
قداسة البابا تواضروس،
أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيظ،
أصحاب السيادة والنيافة، السادة الحضور السلام عليكم:
أحييكم جميعا باسم القدس، مدينة التاريخ والسلام والمحبة، درة تاج فلسطين وقلبها النابض؛ عاصمتها الأبدية التي تنتمي إليها، والتي هي أغلى من أنفسنا، والتي احتضنت ميلاد المسيح ورفعته، وإسراء خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ومعراجه، وجعلها مهوى أفئدة المؤمنين ورباط أهل الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ولا من عاداهم حتى يأتيهم أمر الله، ويومئذ يفرح المؤمنون ويدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة، وفي ليلة الإسراء والمعراج صلى الرسول فيه، ووعدنا الله أن نصلي جميعا فيه كما وعد الله.
أشكر لكم جميعا يا فضيلة الإمام ولجمهورية مصر تنظيم هذا المؤتمر؛ فالقدس بحاجة لنصرتكم ولجهودكم؛ فقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وعلا الظالمون علوًا كبيرًا؛ فنحن في خضم تحديات كبرى ومواجهة مؤامرة كبرى، تستهدف القدس بكل ما تمثله من معانٍ إنسانية وتاريخية وحضارية وسياسية؛ وتضرب بعرض الحائط تحديات بعيدة الخطورة، بدأت منذ أكثر من 100 عام بوعد بلفور المشؤوم على حساب الشعب الفلسطيني. وإن المؤامرة قبل هذا بكثير، بوضع جسم غريب في فلسطين لصالح الغرب.
وجاء الإعلان والخطيئة الخطيرة التي أصدرها ترمب بأن القدس عاصمة إسرائيل، لهو تحدٍ لمشاعر ملايين المسلمين والمسيحيين، لصالح الاحتلال ولعدوانه على أرضنا ومقدساتنا؛ بما يعني أن الولايات المتحدة اختارت أن تتجاوز الاتفاقيات وتتحدى شعوب العالم كافة، وأن تناقض الإجماع الدولي بعد قرار الجمعية العامة في 29 نوفمبر عام 2012؛ حيث اعترف العالم بدولة فلسطين وعاصمتها القدس، ومؤخرا في عام 2017 بقرار "متحدون من أجل السلام" الذي رفض قرار ترمب واعتبره غير قانوني.
لقد حصلنا على 750 قرارًا في الجمعية العامة منذ العام 1947، وعلى 86 قرارا في مجلس الأمن. وبسبب عجز المجتمع الدولي، ولم يطبق قرارًا واحدًا من هذه القرارات. وهنا يجب أن نسأل: لماذا هذه القرارات إذا لم تطبق وأين يذهب المظلوم؟ إلى أين يريدوننا أن نذهب! إلى أين يجبروننا أن نذهب! ونقول لهم: لن نذهب إلى الإرهاب والعنف، سنستمر في المطالبات السلمية حتى نحصل على حقوقنا. ولعل ما يدعو إلى الاستغراب والاستهجان والأسف، وما يثير الكثير من التساؤل أن هذا القرار الخطيئة الذي أصدره الرئيس ترمب، جاء مناقضًا لكل المواقف الأميركية السابقة بشأن القدس من إدارات أميركية، آخرها قرار 2334، منذ عام 1967 وحتى 2016، حين وافقت أميركا على صدور قرار 2334 الذي يقول: إن القدس مدينة محتلة، وإنها أرض محتلة؛ وإن الاستيطان فيها باطل باطل، وبعد أقل من سنة يأتي الرئيس ترمب ليغير كل هذا! ما هذه الدولة التي لا تحترم قراراتها، إذا كانت كلما جاءت أمة لعنت أختها، وكلما جاءت إدارة لعنت سابقتها، كيف نثق بهذه الإدارة! كيف نثق بهذه الدولة العظمى لكي تحكم بيننا وبين الإسرائيليين! لن نثق بها ولن نقبل بها.
فكيف قبلت الولايات المتحدة الأميركية على نفسها هذا الموقف الغريب؛ ونسفت كل مواقفها السابقة، وهزت صورتها كدولة عظمى! يفترض بها أن تلتزم بتعهداتها، وأن تحترم الشرعية الدولية وقراراتها وقوانينها. وكيف يمكن لأحد في العالم أن يقبل بهذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن!
فقد أخرجت الولايات المتحدة الأميركية نفسها بهذا القرار الخطير من عملية السلام، ولم تعد تصلح لأن تقوم بدور الوسيط الذي كانت تلعبه خلال العقود الماضية؛ وبعد أن وقفت في صف الاحتلال بلا مواربة، وفرضت علينا واقعًا لا نملك معه إلا أن نلجأ إلى كل الخيارات الأخرى المتاحة بين أيدينا من أجل الدفاع عن حقوقنا. سنذهب إلى كل الخيارات؛ ولكن لن نذهب إلى الإرهاب والعنف؛ فالإرهاب والعنف مرفوضان من كل العالم ومنا؛ لكن لنا وسائلنا الأخرى التي نذهب إليها لنحصل على حقوقنا، بما في ذلك العودة إلى جماهير أمتنا لكي تأخذ دورها في الدفاع عن القدس؛ فضلا عن العمل على تدويل الصراع مع الاحتلال، وإيجاد مرجعيات دولية وإقليمية أكثر موضوعية ونزاهة، ومواصلة الانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية كحق أصيل لدولة فلسطين، وهو ما بدأنا العمل عليه بالفعل، بالتنسيق مع أشقائنا وأصدقائنا في الساحة الدولية، الذين نتوجه لهم جميعًا بالشكر والتقدير على مواقفهم لدعمهم قضيتنا العادلة، ونعدكم أيها الأعزاء، أننا لن نتوقف عن الكفاح في سبيل حماية حقنا وأرضنا وقدسنا وشعبنا، وصولًا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا، وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية بحدودها الكاملة؛ وحل عادل لمشكلة اللاجئين حسب القرار 194، ووفقا للمبادرة العربية للسلام؛ تلك المبادرة المباركة التي صدرت في قمة بيروت عام 2002؛ ونحن واثقون بوعد الله في كتابه الكريم "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين".
وأقول من جديد: نحن نتمسك بالسلام كخيار لشعبنا؛ ولكن سلامنا لن يكون بأي ثمن؛ سلامنا يستند إلى القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة؛ وبما يضمن إقامة دولة فلسطين المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية على حدود العام 1967؛ وحل قضايا الوضع النهائي كافة.
فلسطين تاريخيا في عام 1947 كان لنا فيها 96%؛ ثم ألغي قرار التقسيم الأول، والثاني سنة 1947 وأعطى إسرائيل 56%؛ وأعطانا 43%؛ وفي نفس الوقت، احتلت إسرائيل من الـ43%، 23% من أرضنا، وسكت العالم كله ولم يحرك ساكنا. ولنرى إلى أين الظلم. من اعتدى على أرض الآخر يرد بقوة السلاح، ألأين هي قوة السلاح الدولي التي استعملها العالم من أجل أن يعطينا حقوقنا! ومع ذلك في عام 1967 احتلت كل الأراضي؛ وما تبقى لنا 22%. نحن الآن نطالب بـ22% من فلسطين التاريخية؛ مع ذلك يرفضون؛ ويقول السيد ترامب القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل! لن نقبل هذا الكلام، لا من ترمب، ولا من الولايات المتحدة، ولا من غيرهم؛ القدس هي عاصمة فلسطين.
إننا حين نتحدث عن القدس أيها الإخوة والأخوات، فنحن لا نتحدث عن مجرد مدينة تتكون من بيوت ومعالم، ويقيم فيها سكان وتتحرك فيها حياة؛ كما لا نتحدث عن مجرد تاريخ أو تراث أو آثار؛ ولكننا مع ذلك كله، نتحدث عن عقيدة تسكن القلوب، وإيمان يفوق الوعي، ويضبط إيقاع الحياة. نتحدث عن حضارة تعاقبت عليها أجيال وأجيال منذ 5 آلاف سنة أو يزيد؛ لكن نقول على الأقل منذ 1400 سنة، نحن في هذه البلاد، حين بنا اليبوسيون الكنعانيون العرب مدينة القدس؛ بل لعلنا نتحدث عن تاريخ أعمق من ذلك بكثير؛ كما جاء في الحديث النبوي الشريف، الذي أخبر فيه الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم: أن المسجد الأقصى هو "ثاني مسجد وضع على الأرض بعد المسجد الحرام"، نقول: أولى القبلتين؛ وثاني المسجدين؛ وثالث الحرمين الشريفين"؛ إذن هو بني بعد المسجد الحرام. منذ متى بني المسجد الحرام؟ لكن نتحدث عن التاريخ الحديث: هذه أرض احتلت عام 1967؛ وكل الأجيال الحالية الحاضرة تعلم ذلك؛ إذن لماذا لا تنسحب منها إسرائيل! ولماذا يقول السيد دونالد ترمب: إنها العاصمة الموحدة لإسرائيل! لن نقبل هذا الكلام؛ ولا نريد أن نستعمل تعابير أكثر قسوة من هذا.
في القدس أيها السادة الأعزاء، انزل الله قرآنا خالدًا يتلى إلى يوم القيامة، يقرر، بآيات سماوية، هويتها ومستقبلها الأبدي، ويرسم ملامح تاريخها الماضي والحاضر والقادم؛ ففيها يقول الله تعالى، وهو أصدق القائلين، وفي سورة الإسراء التي تحمل اسما أضحى وصفًا حصريًا تحمله عاصمتنا المقدسة أرض الإسراء والمعراج: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". هذا قول الحق. الرسول أسري من هناك؛ ثم جاءت الآيات التي ذكرها فضيلة المفتي "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب"، وإن شاء الله يأتي وعد الآخرة.
والقدس أيضًا، وكما تعلمون جميعا، أيها الإخوة والأخوات، هي أولى القبلتين التي صلى إليها رسولنا الكريم وأصحابه مدة من حياته النبوية؛ يعني أن المسلمون صلوا باتجاه القدس، ثم نتخلى عن القدس! اعتقد ليس هناك لا مسلم ولا مسيحي ولا يهودي محترم يقبل هذا (ولا يهودي محترم)؛ وهناك يهود محترمون كثيرًا، ويتحدثون لغتنا، ويتكلمون بكلامنا، ويقولون: هذا نصب واحتيال، وهذا كذب وافتراء؛ القدس للمسلمين وللمسيحيين؛ ونحن كلنا مؤمنون؛ يمكن أن ندخل أو نخرج إليها؛ ولكنها لهؤلاء الناس منذ فجر التاريخ. وفيها ثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وهو المسجد الأقصى المبارك. هي آية من آيات القرآن الكريم، وصورة من صوره الخالدة في سورة الإسراء؛ هي بوابة السماء هي مهد المسيح ورفعته؛ هي معراج محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى؛ فهل يتخيل أحد في العالم أنها يمكن أن تغير وجهها أو هويتها! وهل يتخيل أحد أن أحدًا منا جميعًا يمكن أن يفرط بحبة رمل فيها! هل هناك أحد؟ دعوني أقول لكم قولًا فصلًا أيها الأعزاء: لم يولد بعد؛ ولن يولد أبدًا الفلسطيني أو العربي أو المسلم أو المسيحي، الذي يمكن ان يساوم على القدس وفلسطين، أو يفرط بذرة من ترابها؛ أو يتهاون في مكانتها وسلطانها الروحي على قلوب وعقول ملايين البشر من المسلمين والمسيحيين؛ لا اليوم ولا غدًا ولا إلى قيام الساعة. وسوف نبقى الأوفياء الملتزمين بقرارات المجالس الوطنية الفلسطينية، خاصة قرار الإجماع الوطني عام 1988، الذي حدد ثوابتنا الوطنية التي لن يتنازل عنها أحد؛ فلا معنى لدولة فلسطين دون أن تكون القدس الشرقية بالمسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة عاصمة لها. وبالمناسبة من الدول الأوروبية هناك من اعترف بدولة فلسطين بعاصمتها القدس، كمملكة السويد؛ والأهم حاضرة الفاتيكان، البابا فرانسيس اعترف بدولة فلسطين ورفع العلم الفلسطيني على الفاتيكان، هذا الرجل الفاضل.
إن قرار الرئيس ترامب لن يعطي لإسرائيل أي شرعية في القدس، ولن يمنح الاحتلال حقًا في أرضها أو سمائها؛ فهذه القدس ومنذ أن كانت مدينة فلسطينية عربية إسلامية مسيحية، وهي عاصمة دولة فلسطين الأبدية؛ وبدونها لا يمكن أن يكون سلام في المنطقة، ولا في العالم بأسره، ما لم تتحرر القدس بكل حدودها التي نريدها من الاحتلال الإسرائيلي؛ فالقدس هي بوابة السلام للجميع، حين تكون فقط عاصمة لدولة فلسطين؛ وهي بوابة الحرب والخوف وغياب الأمن والاستقرار -لا قدر الله- إن لم تكن كذلك؛ هي البوابة للسلام والبوابة للحرب؛ وعلى السيد ترامب أن يختار. وأقول لكم أيها الأخوات والإخوة، وبكل ثقة، ومن موقع الأمانة والمسؤولية: إن الرواية الفلسطينية التي هي حقيقة الدين والتاريخ، والتي هي حقيقتكم جميعًا؛ بل وحقيقة كل المنصفين في العالم، قد أصبحت الآن أكثر قدرة على إثبات منطقها وثوابتها وحقوقها الوطنية؛ فيما الرواية المناقضة، والتي تمثل آخر احتلال في هذا العالم- أصبحت تتقوقع أكثر فأكثر داخل أزمتها الأخلاقية والسياسية المتصاعدة.
إن هذا الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي الجاثم فوق أرض دولة فلسطين، وبكل ما يحمله من عوائق وانتهاكات للأرض الفلسطينية، وبما يكرسه من أزمة أخلاقية له، ولمن يقف معه- أضحى اليوم يواجه رفضًا دوليًا حاسمًا ومتزايدًا، وقد تمثل هذا الرفض الدولي بصور شتى، فدونكم اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين وبأغلبية ساحقة عام 2012، عندما اعترفت الجمعية العامة بدولة فلسطين عام 2012 صوتت 138 دولة؛ كم صوتا كان ضدنا؟ 8 دول: أميركا، وإسرائيل، وعدد من الدول. أنا شخصيًا لم أسمع عنها أبدا. ودونكم الرفض الدولي العارم لقرار الرئيس ترمب بشأن القدس في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة؛ ودونكم المقاطعة الاقتصادية العالمية لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية؛ كل دول أوروبا أخذت قرارًا بمقاطعة البضائع التي تأتي من المستوطنات؛ يجب علينا نحن كعرب ومسلمين أن ننتبه لهذا؛ إن العالم بدأ يقف معنا؛ هناك أصوات في أميركا تطالب بمقاطعة إسرائيل في الجامعات، وفي الكنائس، وفي المعاهد الآن؛ لأنهم بدأوا يصحون على أنها ترتكب جرائم ضد الشعب الفلسطيني؛ على أنها ترتكب التمييز العنصري "الأبارتهايد" -الذي كانت تمارسه جنوب إفريقيا- ضد الشعب الفلسطيني. بدأوا يعرفون تمامًا على أن الشعب الفلسطيني هو آخر شعوب العالم ما زال تحت الاحتلال؛ الأمر الذي يتناقض تمامًا مع بقاء الاستيطان على أرضنا التي تحمل حدود دولتنا منذ عام 1967، والتي اعترفت بها الأمم المتحدة بعد نضال وطني متواصل.
أيها السادة، لقد أغرى الموقف الأميركي الجائر بشأن القدس دولة الاحتلال لكي تتمادى في صلفها وعدوانها على شعبنا وأرضنا ومقدساتنا. وما قرارها الأخير بشأن تكريس احتلالها في القدس؛ وأخذها قرارات في الكنيست لتكريس الاحتلال، وتخطيطها لطرد آلاف المقدسيين خارج حدود المدينة، وإعادة رسم حدودها من أجل ضمان أغلبية يهودية فيها، وضم الأراضي الفلسطينية المحتلة- إلا مثال صارخ على ما تسبب به القرار الأميركي من تشجيع لها على العدوان على الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته. يعني كان نتنياهو ينتظر قرارات ترمب؛ وبدأ بأول قرار، أنه لن يتنازل عن القدس إطلاقًا، إلا بأغلبية 80 عضوًا؛ وهذا لا يمكن أن يحصل؛ ثم بتغيير حدود القدس ليخرج العرب ويدخل المستوطنات لتصبح الأغلبية الساحقة لمدينة القدس من اليهود؛ بينما العرب الموجودون فيها مسيحيون ومسلمون سيكونون أقلية.
لقد حاولت سلطة الاحتلال قبل أشهر، تحديدًا في أواسط شهر يوليو الماضي- أن تفرض واقعًا جديدًا في المسجد الأقصى عبر تركيب بوابات إلكترونية على أبواب المسجد الأقصى. ونذكر هذه المعركة (معركة الأقصى وكيف ثبت أهل القدس المسيحيون والمسلمون)، ثبتوا هناك حتى منعوا هذه الإجراءات وأوقفوها؛ والمنظر الأبهر والأعظم هو أننا كنا نرى المصلين، المسلم مع المسيحي؛ هذا يحمل القرآن، وهذا يحمل الإنجيل، ليصلوا أمام المسجد الأقصى ليمنعوا نتنياهو من إجراءاته، ومنعوه.
وهذه الوقفة من أهل القدس جميعًا من كل الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة والـ48، والدعم الذي جاءنا من أشقائنا في الأردن ومصر والسعودية والمغرب؛ هذه الدول جميعها قامت بواجبها بالانتصار في هذه المعركة.
لقد أكدت هذه الجولة من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي في القدس عظمة وتأثير المقاومة الشعبية السلمية، كلها مقاومة شعبية سلمية؛ يعني جباه المصلين هي التي منعت نتنياهو أن يستمر في عمله؛ ولم يستعملوا لا قوة ولا سلاحًا ولا أي شيء؛ جباه المصلين على الأرض الطاهرة هي التي منعت ذلك. لقد أكدت هذه الجولة من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي في القدس عظمة وتأثير المقاومة الشعبية السلمية التي يمارسها الشعب الفلسطيني البطل. نحن متمسكون بالمقاومة الشعبية السلمية، ولا نريد لأحد أن يزاود علينا. وهذه الطريقة التي نجحت والتي سنستمر فيها؛ كما أكدت لنا صواب دعوتنا لأبناء أمتينا العربية والإسلامية، المسلمين والمسيحيين على السواء من أجل شد الرحال إلى المدينة المقدسة نصرة لأهلنا المرابطين فيها وفي أكنافها، ورفعا لروحهم المعنوية وهم يواجهون أعتى المؤامرات التي تستهدف وجودهم وهوية أرضهم ومقدساتهم، وتأكيدًا على الحقوق العربية والإسلامية في القدس ومقدساتها؛ لكي يعلم العالم أجمع أن القدس لن تكون لقمة سائغة للاحتلال، وأنها تخص جميع العرب المسلمين والمسيحيين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن التواصل العربي والإسلامي مع فلسطين والفلسطينيين، ومع مدينة القدس وأهلها على وجه الخصوص، هو دعم لهويتها العربية والإسلامية وليس تطبيعًا مع الاحتلال، أو اعترافًا بشرعيته (كما يحاول البعض أن يتوهم أو يوهم)؛ بل إن الدعوات لعدم زيارة القدس، بدعوى أنها أرض محتلة، لا تصب إلا في خدمة الاحتلال ومؤامراته الرامية إلى فرض العزلة على المدينة؛ فزيارة السجين ليست تطبيعًا مع السجان؛ يجب ونتمنى عليكم جميعا ألا تقاطعوا أهل القدس؛ أن تتواصلوا مع أهل القدس؛ أن تقفوا إلى جانب أهل القدس؛ أن تزوروا القدس؛ زيارة القدس ليست زيارة إلى إسرائيل، وليست تطبيعًا مع إسرائيل؛ إنها تشجيع للناس لكي يصبروا، كيف يصمدون وأنتم تقاطعونهم وأنتم لا تدعمونهم! ماذا نريد في القدس.. بعض الحجارة، بعد أن يخرجوا أهلها منها! نريد القدس بأهلها بمساجدها وكنائسها وبأهلها؛ أن تقفوا إلى جانبهم؛ هذا ليس تطبيعا.
التطبيع يحصل بطرق أخرى، وليست بطرقكم؛ أنتم بنواياكم الطيبة تذهبون لخدمة ودعم أهل القدس. نرجوكم ونتمنى عليكم ألا تتركوننا وحدنا، لا تتركوننا وحدنا.
إن الاحتلال الإسرائيلي، أيتها الأخوات والإخوة، يحاول أن يجعل حياة الفلسطينيين جحيمًا لا يطاق؛ لإجبارهم على ترك أرضهم ومقدساتهم؛ وبالذات في المدينة المقدسة، تحت أثقال الضغوط المعيشية والاقتصادية التي سببتها سياسات الاحتلال العنصرية من قتل لأبناء شعبنا بدم بارد، كما فعلوا مع الطفل محمد أبو خضير. تذكرون محمد أبو خضير الذي قتل بدم بارد من المستوطنين، الذي أخطفته عصابات المستوطنين وأعدموه حرقًا، كما فعلوا مع عائلة دوابشة التي أحرقوها وهي نائمة في منزلها ليلًا؛ فاستشهدت العائلة بكاملها، إلا طفلًا صغيرًا عمره 4 سنوات نفد من القتل، وخرج بحروق في جسمه وبقي حيا للآن، ومثلهم كثير كثير.
إن اعتقال المواطنين الفلسطينيين وهدم بيوتهم ومصادرة أملاكهم وطردهم منها، وهذه سياسة دائمة، إسرائيل تصادر الأراضي، تهدم البيوت، لتجبر الناس على مواجهتهم. نحن باقون هنا؛ لن نغادر أرضنا، لن نرتكب حماقة 48، ولن نرتكب حماقة 67؛ سنبقى في أرضنا مهما فعلوا؛ لكن نريد دعمكم، نريد وقوفكم إلى جانبا.
إن القدس، أيها الإخوة والأخوات، ليست قضية هامشية في حياة الأمة؛ بل هي أم القضايا التي يجب أن تكون على رأس أوليات الدول والحكومات والشعوب؛ وهي اليوم تستنصر أمتها .. وا قدساه.. يقولون لكم وااا قدساه؛ لكي تشد الرحال نصرة لها ودعما لصمود أهلها ورباطهم فيها، ونحن أكثر من يستطيع تقدير المصلحة في ذلك، إن قدوم العرب والمسلمين والمسيحيين إلى القدس هو نصرة لها، وحماية لمقدساتها ودعم لصمود أهلها؛ وليس تطبيعًا مع الاحتلال الذي يضع كل العقبات. والاحتلال سعيد بألا يأتي أحد، ومرتاح ألا يأتي أحد، ومستفرد بما تبقى من السكان؛ ويطردهم، ولا يجدون من ينجدهم.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة، لقد طال زمن التحديات الجسام والاستهداف العنصري الذي تتعرض له فلسطين المباركة وعاصمتها القدس وأهلها المرابطون، وآلت المحن والنكبات على هذا الشعب التي تكالبت قوى الشر منذ ما يزيد عن قرن من الزمان (أيام وعد بلفور)؛ لكن رايته بقيت فيه خفاقة عالية، وهامات أبنائه وبناته بقيت مرفوعة، كفاح ونضال وإيمان بالنصر الموعود. ورغم الدماء والمعاناة لن يستكين فينا طفل، ولن يخضع ولن يستسلم شيخ؛ جيلًا بعد جيل. وقد شاهدتم بأم عيونكم تلك الزهرة الفلسطينية العملاقة (عهد التميمي) منذ أن كان عمرها 6 سنوات؛ والآن عمرها 16 سنة؛ وهي تهجم على الجندي الإسرائيلي وتضربه وهو مسلح ولا تخاف؛ وهي الآن في السجن؛ فعاقبتها دولة إسرائيل بالاعتقال والمحاكمة العنصرية الجائرة. إن هناك آلافًا منها وأكثر، ممن تتعرضوا للاعتداءات الإسرائيلية عليهم وعلى أملاكهم. وهؤلاء جميعًا يتطلعون إلى العدالة الدولية لعلها تنصفهم. هم الآن كل من تضرر من الاحتلال، باعتقال بقتل وجرح ومصادرة أراض؛ الآن يطالبون بالذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومن حقهم في هذا، ولا أحد يستطيع أن يمنعهم من ذلك؛ سيذهبون إلى المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة بحقوقهم، شاء من شاء، وأبى من أبى؛ وإن شاء الله، لعل المحكمة الجنائية الدولية تنصفهم أحسن من الأمم المتحدة التي لم تنصفنا إلى يومنا هذا.
ففي القدس، وفي كل فلسطين، شعب لم يهن ولم يخضع ولن ينكسر، رغم كل العدوان، الذي يتعرض له نساء ورجال وشباب وشيوخ وأطفال يؤمنون بحقهم وبوعد الله لهم: إن النصر قادم لا محالة. إن هذه المدينة الفلسطينية المقدسة ستظل شامخة بأهلها وشبابها وزوارها.. وزوارها.. وزوارها من المسلمين والمسيحيين. نحن ننتظر وننتظر وننتظر؛ لا تخيبوا آمالنا. إن الزيارة فيها ليست إلا لدولة فلسطين، وستكون مدينة مفتوحة لجميع اتباع الديانات السماوية (المسلم والمسيحي واليهودي) يأتي ليصلي فيها آمنا مطمئنا ويذهب؛ وإن كان من سكانها يجلس؛ وإن كان من غير سكانها يذهب. وتعهد منا أن تبقى مدينة مفتوحة لكل الأديان دون تفريق؛ لأننا نحن كمسلمين نؤمن بكل الأديان؛ ونؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم، "وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
كلنا أمل أن يتمخض هذا المؤتمر، سيدي فضيلة الإمام، عن نصرة حقيقية للقدس، ولا أقل من أن نرى أفواج المرابطين تتقاطر على القدس من كل أرجاء الدنيا تشتري زمنا فيها، خير من الدنيا وما فيها (كما قال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم). إن صوت الأزهر الشريف الذي يمثل المرجعية الفكرية والفقهية الأولى للأمة الإسلامية، وصوت علماء الأمة الإسلامية ورجال الدين المسيحيين ضرورة وواجب، لا بد أن يحضر في هذه المعركة التي نخوضها من أجل القدس. القدس قدسكم؛ لست لنا وحدنا، (مش فلسطينية بس، إحنا كتب علينا الرباط إلى يوم الدين. ماشي؛ لكن هي لكل مسلم ومسيحي، مليارات المسلمين والمسيحيين) يجب عليكم جميعًا أن تدافعوا عنها، ولا تتركونا وحدنا. القدس قدسكم، والأقصى أقصاكم، والقيامة قيامتكم، والمهد مهدكم. نحن كما نصلي في العيد وكما نصلي الجمعة، نذهب لنحضر القداس في أعياد الميلاد؛ لأننا شعب واحد. أنا شخصيًا حضرت قداس الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس والأرمن؛ لأننا شعب واحد نحترم ديانات بعضنا البعض.
تحية للمرابطين في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس. تحية للشهداء وعائلاتهم وللأسرى وأهلهم والجرحى وأحبابهم. بالمناسبة منذ وعد ترمب المشؤوم إلى الآن، يوجد عندنا 30 شهيدًا، رغم أنها مقاومة شعبية سلمية؛ وعندنا 7 آلاف جريح، و1000 معتقل خلال شهر ونص الشهر الماضيين، تضحية ودفاعًا عن القدس، ورفضا لقرار السيد دونالد ترمب.
ويوم الحرية آت، بسم الله الرحمن الرحيم: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)? صدق الله العظيم
وفقنا الله وإياكم لما فيه خير لأمتنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.