كلمة الرئيس محمود عباس أمام القمة العربية العادية بدورتها الـ30 في العاصمة التونسية
أصحاب المعالي، والسعادة،
السيدات والسادة،
بداية، يطيب لي أن اتوجه بالتحية والتقدير لفخامة الأخ الرئيس الباجي قائد السبسي، ومن خلاله للشعب التونسي الشقيق على استضافة هذه القمة على أرض تونس التي نكن لها نحن أبناء الشعب الفلسطيني كل المحبة والتقدير والعرفان، كيف لا، وهي التي فتحت أبوابها لنا، واحتضنت الثورة الفلسطينية وقيادتها في أصعب الظروف، إلى أن انتقلنا منها مباشرة إلى فلسطين.
كما اتوجه بالشكر والعرفان لحضرة أخي الملك سلمان بن عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين، على رئاسة واستضافة القمة السابقة في الظهران، والتي أسماها "قمة القدس"؛ تأكيدا على مواقف المملكة العربية السعودية الثابتة والداعمة لحقوق شعبنا وقضيتنا العادلة، وصولًا إلى نيل شعبنا حريته واستقلاله.
ونتوجه بتحية إكبار وتقدير لقادة الدول العربية ولشعوب أمتنا كافة، على مواقفهم الداعمة لحقوق شعبنا، وتصديهم لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية؛ ونتطلع إليكم لرص الصفوف، وتوحيد المواقف لنصرة فلسطين، قضية العرب الأولى. كما نحيي جهود الأخ الأمين العام وطواقم جامعة الدول العربية على جهودهم للتحضير لهذه القمة.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
آتيكم اليوم مجددًا، وقد أحيا شعبنا بالأمس ذكرى يوم الأرض، لأطلعكم على ما آلت إليه الأوضاع الخطيرة في مدينة القدس الشريف؛ حيث تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي ممارساتها القمعية وإجراءاتها التعسفية من أجل طمس هوية المدينة المقدسة وتغيير معالمها الروحية والتاريخية؛ وانتهاك حرمة مقدساتنا الإسلامية والمسيحية، والتضييق على أهلها، وزائريها والقادمين للعبادة فيها؛ ففي كل يوم يتعرض المسجد الأقصى للاقتحامات، التي كان آخرها الاعتداءات على باب الرحمة، ومواصلة عمليات حفر الأنفاق من قبل الحكومة الإسرائيلية؛ بهدف استكمال ما يطلقون عليه "التقسيم المكاني والزماني" في الحرم القدسي الشريف؛ هذا علاوة على الاعتداءات على كنيسة القيامة ورهبانها.
وفي هذا الإطار، فإننا نجري اتصالات حثيثة ومتواصلة، وعلى الصعد كافة، وبالتنسيق المشترك مع جلالة الملك عبد الله الثاني، صاحب الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وشريكنا في الدفاع عن القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين؛ وهنا نشيد بدور الأوقاف الإسلامية الأردنية باعتبارها مسؤولة حصريًا على إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك؛ ونحن نعمل معا وسويا لوقف هذه الهجمة الشرسة من قبل جماعات التطرف المحمية من الحكومة الإسرائيلية، والعودة لاحترام الوضع التاريخي القائم قبل 1967 التي تعمل دولة الاحتلال لتغييره لصالح مشروعها الاستعماري.
وفي هذه الظروف الصعبة نود أن نرسل تحية إكبار إلى أهلنا في القدس، ونقول لهم من هنا: إن أمتكم وقادتها يحيون صمودكم، ولن يتركوكم وحدكم؛ فقد وقفتم مسلمين ومسيحيين، معا في وجه المحتلين والمستوطنين كعادتكم؛ فكل التحية لكم على ثباتكم وشجاعتكم؛ مقدرين عاليا الاتصالات والجهود المبذولة مؤخرا من جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس، ووكالة بيت مال القدس الشريف.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
إن ما تشهده فلسطين من ممارسات قمعية، ونشاطات استيطانية، وخنق للاقتصاد الفلسطيني، ومواصلة إسرائيل لسياستها العنصرية، والتصرف كدولة فوق القانون- ما كان له أن يكون لولا دعم الإدارة الأميركية للاحتلال الإسرائيلي؛ هي السبب الأول والأخير؛ وهي التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها وضمت القنصلية الأميركية في القدس لها، وأزاحت ملف الاستيطان واللاجئين والأونروا من على الطاولة، وأغلقت ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، وأنهت "مبدأ الدولتين"، كما اسقطت في تقرير رسمي مؤخرا صفة "الاحتلال" عن الأراضي الفلسطينية؛ أي أن إسرائيل لا تحتل أرض فلسطين، وأن حرب 1967 لم تحصل إطلاقًا؛ وأعلنت بشكل غير شرعي، ودون وجه حق، عن اعترافها بضم الجولان السوري المحتل لإسرائيل، وسيادتها عليها؛ وهو ما نرفضه ويرفضه العالم أجمع. والآتي من أميركا أخطر وأعظم؛ حيث ستقول لإسرائيل: أن تضم جزءًا من الأراضي الفلسطينية؛ وتعطي ما تبقى منها حكما ذاتيًا وأعطي قطاع غزة دولة شكلية لتلعب بها "حماس".
إن ما قامت به الإدارة الأميركية الحالية بقراراتها هذه يمثل نسفًا لمبادرة السلام العربية، وتغييرًا جذريًا في مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ هذا حصل في عهد ترمب؛ لم نكن نسمعه، ولم نره أبدًا في العهود السابقة. ربما كانوا يخفون هذه السياسة لوقت ما؛ ولكن جاء ترمب ليعلن هذه السياسة المنافية للشرعية الدولية منذ 47 إلى يومنا هذا، وانقلابا بشكل كامل على القانون الدولي والشرعية الدولية. وتكون هذه الإدارة الأميركية بذلك قد أنهت ما تبقى لها من دور في طرح خطة سلام أو القيام بدور الوسيط في عملية السلام، وهي وسيط غير نزيه.
وهذا يؤكد لكم، أيها الإخوة القادة، وللعالم، صحة قراراتنا من وقف الاتصالات بالإدارة الأميركية، واعتبارها غير مؤهلة وحدها لرعاية المفاوضات.
وهنا نؤكد على ما اتفقنا عليه سويًا، بأننا لا يمكن أن نقبل أية خطة سلام لا تحترم أسس ومرجعيات عملية السلام وقرارات الشرعية الدولية، وصولًا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق الحرية والاستقلال لدولتنا بعاصمتها القدس الشرقية.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
وفي موضوع متصل، فإننا ندعوكم مجددًا، ؟إخواني القادة للحذر من محاولات إسرائيل دفع بعض دول العالم لنقل سفارتها للقدس. إن هذا الأمر يستدعي من دولنا، مجتمعة ومنفردة، ودون تهاون، أن تقف في وجهها، وإعلام تلك الدول التي تسير في هذا الاتجاه بأنها تخالف القانون الدولي والشرعية الدولية، وأنها تعرض مصالحها وعلاقتها السياسية والاقتصادية مع الدول العربية للضرر والخطر إن هي قامت بذلك.
واستحضر ها هنا قرار القمة العربية للعام 1980 الذي أكد على قطع العلاقات مع أية دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو تنقل سفارتها إليها.
كما أننا على ثقة بأن محاولات إسرائيل لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية لن تنجح ما لم تطبق مبادرة السلام العربية 2002، من البداية إلى النهاية؛ وليس العكس؛ فلا تطبيع إلا بعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية والعربية.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
في ظل غياب حل سياسي يستند للشرعية الدولية، فقد دعونا لعقد مؤتمر دولي للسلام وإنشاء آلية دولية متعددة الأطراف لرعاية المفاوضات. وإننا نحث الدول الأوروبية وغيرها من الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين للقيام بذلك. وهذا الأمر ليس بديلاً عن المفاوضات، بل إنه سيحافظ على "حل الدولتين" ويعزز فرص السلام في المنطقة. ونشكر الممثلية العليا للسياسة الخارجية والأمن لدى الاتحاد الأوروبي فردريكا موغيريني على ما تضمنته كلمتها من أن أوروبا ملتزمة ب"حل الدولتين".
كما أننا سنواصل عملنا المشترك من أجل حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، لا سيما وأنه قد تم اختيار دولة فلسطين منذ مطلع هذا العام لرئاسة مجموعة الـ77 والصين التي تضم 134 دولة في العالم، وهو دليل على ثقة المجتمع الدولي بقدرة وكفاءة مؤسسات الدولة الفلسطينية في القيام بدور لحل قضايا دولية ذات شأن كبير، مثل قضايا التنمية المستدامة، والبيئة، والتواصل بين دول الجنوب والشمال، وغيرها من القضايا الاقتصادية الدولية.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
إن إسرائيل (الدولة المحتلة) والتي تواصل نشاطاتها الاستيطانية، وتنهب أرضنا ومواردنا الطبيعية، لم تتوقف عند ذلك، بل قامت مؤخراً باقتطاع جزء كبير من أموالنا التي تجبيها وتأخذ عليها أجرًا، والمعروفة بـ"أموال المقاصة" والبالغ قيمتها مائتي مليون دولار شهرياً؛ بذريعة أننا ندفع رواتب لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى، الأمر الذي يعتبر خرقاً للاتفاقيات. لم يوجد هذا بأي اتفاق من الاتفاقات بيننا وبينهم؛ وهو ما جعلنا نصر على استلام أموالنا كاملة غير منقوصة. وقلنا ونقول لإسرائيل وللعالم أجمع: إننا لن نتخلى عن أبناء شعبنا، وبخاصة من ضحّى منهم، وسنواصل دعمهم، حتى وإن كان ذلك آخر ما نملك من موارد مالية.
إسرائيل خصمت الشهر الماضي 182 مليون شيقل، وفي الشهر الجاري خصمت 192 مليون شيقل، إضافة إلى الأجر الذي تأخذه، وهو 7 مليون دولار.
إن هدف إسرائيل من احتجاز أموالنا، ومن قبلها قيام الإدارة الأميركية بوقف جميع مساعدتها البالغة 844 مليون دولار سنويًا هو للضغط علينا وإجبارنا على الاستسلام والتخلي عن حقنا المشروع في القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة؛ لكن القدس ليست للبيع، ولا معنى لأن تكون فلسطين دون أن تكون القدس الشرقية بمقدساتها الإسلامية والمسيحية عاصمة لها.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
أمام هذا الواقع الصعب والحصار الممارس على شعبنا؛ فقد اتخذنا العديد من الإجراءات التقشفية، وسنعمل على زيادة الإنتاج المحلي في المجالات كافة؛ ولكننا وأمام هذه الأزمة الطارئة، ندعوكم، أيها الإخوة القادة، للعمل على تفعيل قرارات القمم السابقة الخاصة بتوفير شبكة الأمان المالية. سبق أن مررنا بهكذا أزمة، وطالبنا بتوفير شبكة أمان عربية، والوفاء بالالتزامات المالية لدعم موازنة دولة فلسطين، مقدرين عالياً الدول التي أوفت بالتزاماتها، وداعين الدول الشقيقة الأخرى للوفاء بحصتها، هذه الظروف صعبة وخطيرة للغاية نرجو ألا تتخلوا عنا؛ الأمر الذي سيمكن شعبنا من الصمود والثبات.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
وبالتوازي مع كل ما سبق، فإننا ماضون في جهودنا المخلصة لوحدة أرضنا وشعبنا، وحريصون على توفير نصف ميزانية دولة فلسطين تقريبًا لأهلنا في قطاع غزة؛ لم نتوقف مرة أو شهرًا واحدًا عن دفع نصف موازنتنا لغزة؛ ثم يقال إننا نحاصر غزة! من يحاصرها هي إسرائيل، وقد بذلنا كل جهد ممكن لإنجاح الجهود العربية والدولية بالرغم من مواقف حركة "حماس" التي تعطل المصالحة. مثمنين عاليًا مواقف وجهود الأشقاء في جمهورية مصر العربية بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ مصر قدمت مؤخرًا مقترحًا وافقنا عليه ووافقت عليه "حماس"؛ لكن إلى الآن لم تطبقه "حماس" التي لا تريد المصالحة.
وفي هذا الصدد، فإننا ندين وندعو إلى إدانة الممارسات القمعية التي تقوم بها حركة "حماس"، ونحذرها من التطاول على جماهير شعبنا التي انتفضت في غزة مطالبة بإنهاء الانقلاب والعيش الكريم؛ كما نرفض التصريحات العدوانية لرئيس الحكومة الإسرائيلية التي أكد فيها أن هدف تمرير الأموال لحركة "حماس" إنما هو لإبقاء حالة الانقسام الفلسطيني قائمة، وتقويض إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية.
أيها الإخوة، سيكون لدينا قبل منتصف هذا الشهر حكومة جديدة، تبدأ بالإعداد لانتخابات عامة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، علها تكون الخطوة التي ستنهي الانقسام من خلال إرادة الشعب في صناديق الاقتراع. ونقول لأهلنا في قطاع غزة: إننا لن نتخلى عنكم، ولن نقبل بدولة في غزة، ولا بدولة دون غزة. وانتظروا هذا سيأتي من أميركا خلال شهر أو شهرين بالحديث عن دولة في غزة.
الأخ الرئيس، الإخوة القادة،
أجد نفسي هاهنا ملزمًا- وكما كنت دائما- بقول الحقيقة كما هي: إننا مقبلون أيها الإخوة الأعزاء على أيام غاية في الصعوبة، بعد أن دمرت إسرائيل (الدولة القائمة بالاحتلال لأرض دولة فلسطين) كل الاتفاقيات، وتنصلت من جميع الالتزامات منذ أوسلو إلى اليوم، وهي مستمرة في سياساتها وإجراءاتها لتدمير "حل الدولتين"؛ بحيث جعلتنا نفقد الأمل في أي سلام يمكن تحقيقه معها.
وأؤكد لكم هاهنا، أنه لم يعد باستطاعتنا تحمل الوضع القائم، أو التعايش معه، حفاظًا على مصالح وأحلام شعبنا في الحرية والاستقلال؛ ولذلك سنكون مضطرين، عاجلًا غير آجل، إلى اتخاذ خطوات وقرارات مصيرية، وكلنا ثقة أنكم ستكونون- كما كنتم دائمًا- معنا في نضالنا، وسندًا حقيقيًا لشعبنا وقضيتنا.
أشكركم فخامة الرئيس وشعبكم على كرم الضيافة، ورئاسة هذه القمة، وأحييكم أيها الإخوة القادة على دعمكم، ومواقفكم، وشعوبكم، تجاه فلسطين والقدس، مؤكدين لكم جميعًا، بأننا سنبقى وشعبنا صامدين في وطننا، سنبقى ولن نغادر بلدنا كما حدث في عامي 1948 و1967؛ سنواصل ثباتنا بكل قوة وإصرار لإكمال المسيرة التي بدأناها، للدفاع عن شعبنا ومقدساتنا، وخاصة في القدس الشريف عاصمة دولتنا المستقلة الأبدية.
بسم الله الرحمن الرحيم "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".
والسلام عليكم.