خطاب الرئيس ياسرعرفات في الذكرى الحادية عشرة لانطلاق الثورة
خطاب الرئيس ياسرعرفات في الذكرى الحادية عشرة لانطلاق الثورة
عام التصعيد والتلاحم
أيها الإخوة رفاق النضال،
أيها الإخوة رفاق السلاح،
يوم أن انطلقت الثورة الفلسطينية في الفاتح من عام 1965 واجهت التحديات منذ اللحظة الأولى، لأنها كانت تدك عهود الظلم والتيه بسواعد ثوارها الذين زادتهم الأيام والمحن إصرارًا وعنادًا وقوة.
يومها قيل باستخفاف إنه لن يصدر البلاغ العاشر. والآن ها نحن نودع عامنا العاشر ونستقبل العام الجديد، عامًا هامًّا من عمر ثورتنا المظفرة، في مسارها على الدرب الكبير، حاملة في طياتها معاني عظيمة وسامية، وتؤكد بأن هذه الثورة الرائعة هي ثورة شعبنا المثابر الصامد، تسير وفي ركابها الخير والتصميم، وتتحرك وفي أعطافها العزة والإرادة، وتسجل في كل هذا التحرك إرادة شعبها الذي لا يقهر، ونثبت في مجموع هذه المسيرة تصميم أمتنا التي لا تلين، وتقرع أبواب التاريخ بقوة وعزيمة وإخلاص وتفانٍ، تسطره وتتعانق معه، في إبداع ثوري متسامٍ، ونسج نضالي فريد. ولتترك بصماتها القوية الواضحة على التراث العربي، وتتلاحم مع الحضارة البشرية تغذيها وتتغذى منها، وترفدها وترفد منها، على إيقاع الكفاح مع حركة المدّ الثوري المستمر.
عشرة أعوام مضت يا رفاقنا ويا إخوتنا ويا أحباءنا، وفي كل يوم عمل ونضال، وفي كل سنة كفاح وإصرار، تتلاحق فيها الأيام والأشهر والسنون، بما حملت في طياتها من آلام ومتاعب ومآس وذكريات، وما انطوت عليها الأحداث العظام، من انتصارات ومكاسب، وما صاحبها من نكسات وتراجعات.
ولكن الثورة بالرغم من تكالب أعدائها من الإمبرياليين الدوليين والصهاينة الغزاة، وبالرغم من تكاثر وتجمع المؤامرات عليها بقوة وتركيز، استطاعت -وبكل الإيمان والتحدي في جذورها وأسسها- أن تخترق طريقها، وتشق دربها حاملة معها من الجراح أثخنها، ومن الآلام أشقها، ومن الانتصارات بسماتها. وهي في زخمها هذا وفي تحريكها ذاك إنما كانت تصنع المعجزة مع التكامل الرائع في مسار الثورة العظيم، وتشكل مع جميع المناضلين وجميع الثوار من أجل الحرية في العالم كله، هذه الجبهة القوية المتراصة لتصنع تراثًا حيًّا ومتجددًا للإنسانية المعذبة، ولتضع حدًّا للاضطهاد والظلم وللاستعباد والاستعمار الذي ترزح تحت وطأته البشرية التي تقف اليوم متكاتفة متعاونة أمام طغيان القوى الإمبريالية والمؤامرات الصهيونية وجشع الاحتكارات العالمية.
وثورتكم -وهي تحث الخطى في هذه المسيرة الصعبة والقاسية- لا تنسى أنها مع إخوانها المناضلين في أمتنا العربية، وأنها جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ فيها ومنها، ولا تنسى أصدقاءها الأوفياء في الدول الاشتراكية الصديقة، ودول عدم الانحياز، والدول الإسلامية الشقيقة، ورفاق السلاح في حركات التحرير في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإننا جميعًا نقف في خندق نضالي واحد.
يا رفاق الدرب الثوري، كثيرة هي الملاحم الثورية التي خاضتها ثورتكم الأصيلة في مراحلها الماضية وفتراتها السابقة، ولكن هذا العام الذي انصرم تميز عن غيره من أعوام الكفاح بتلاحق في الأحداث لم يشهد له مثيل سابق في أتون معاركنا النضالية عبر السنوات السابقة، فقد تميزت هذه الحقبة من الزمن بعديد من الملاحم خضناها سويًّا، على أكثر من صعيد، وفي أكثر من درب داخل الأرض المحتلة، حيث شهدت هذه الأرض الطيبة تكيفا ملحوظا وقويا للعمل العسكري، من خلال تصاعد عمليات ثوارنا، وتصعيدًا موسعًا للعمل الجماهيري عبر التنظيمات الشعبية والجماهيرية، والتي تركزت في الجبهة الوطنية داخل أرضنا المحتلة، باعتبارها الذراع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بين جماهيرنا في أرضنا المحتلة.وكذلك تميزت بوعي كبير وبصورة فائقة من صور الكفاح الشعبي البطل، ولتعطي برهانا ثابتا للالتحام المتعاظم بين الشعب وثورته وبين الجماهير وقيادتها، معلنة بإصرار وعناد أروع إطار للاستفتاء الشعبي الحقيقي، طالما حاولت القوى المعادية لشعبنا أن تطمسه، وطالما جهدت جهود العدو الصهيوني وحلفائه وعملائه أن تنال منه وتشكك فيه، بل لقد أتى في وقت هام ودقيق من نضالنا؛ ليعطي هذا التلاحم الرائع صورته الحقيقية، وليحيط الثورة بهذا الدرع المتين من قوى وجماهير شعبنا، وليهبَ الأمثولة المقدسة على مدى تعاظم المد الشعبي وأهميته في دعم الثورة ودفعها بقوة وثبات في دربها الطويل.
ويتعاظم اللحن الثوري من خلال الدماء الزكية البريئة التي سالت، لتتوج هذا كله بأعمق معاني التضحية والفداء، من خلال استشهاد الزهرتين البطلتين منتهى ورباب، مع بقية من استشهد من أهلنا أثناء انتفاضة التحدي أمام دبابات العدو وحرابه ورصاصه.
وتتكامل هذه الصورة وتتلاحم مع صور الصمود والبطولة التي تقفها جماهيرنا العظيمة في مخيماتنا، وأهلنا وأشقاؤنا في الجنوب اللبناني، تتصدى بأجسادها، بلحمها، بدمها، وحشية الصهاينة، ومدفعيتهم، ونابالهم وقنابلهم.
وتقف الجماهير الصامدة الصابرة والمثابرة في وجه هذه الهدايا الأمريكية الصهيونية التي تنهال عليهم بكبرياء عظيم، وصبر أصيل، وصمود رائع لهذه الجماهير المكافحة.
وكأنه -يا رفاق السلاح- قدر أسطوري لشعبنا البطل أن يسخو في العطاء، وعلى أكثر من جهة، وفي أكثر من موقع، عطاءً سخيًّا، ويتصدى لآلة الحرب الجهنمية التي يمتلكها عدونا والتي تهيلها عليه أمريكا حليفته الدائمة، وحاميته المستمرة، ولا يجد شعبنا في أحيان كثيرة إلا مهجته يطعمها لجنازير دباباتهم ومدرعاتهم، ولتدمير قنابلهم وصواريخهم. وكأنه يحاول بذلك أن يصنع من أجساده موانع لتعميق هذا العدو الغازي من إكمال اجتياحه للربوع كلها.
فما أعظمك يا شعبنا المعطاء! يا شعبنا البطل يا شعب الكبرياء والبطولات، يا شعب التضحيات والشهداء،
بوركت من شعب أصيل تنتمي بحق وصدق إلى هذه الأمة العربية العظيمة: أمة التحديات والخلود، أمة العزة والسؤدد.
يا إخوتي رفاق الدرب، كيف كان الصمود؟ وكيف كان الثبات؟ وكيف كان التحدي؟ تلك هي قصة تروى وستروى للأجيال القادمة، ترويها أجيال الثورة وصناعها وحملة مشاعلها، يرويها أولئك الذين سيكتب لهم أن يعبروا الجسر البشري الذي تنسجه الثورة من أجساد الشهداء وآلام الضحايا، وعذاب الجراح للمستقبل، للغد المشرق، للأجيال القادمة، يرويها هؤلاء بكل فخر واعتزاز وكبرياء، بأسطر ساطعة ناصعة في سفر التكوين الحي لمستقبل أمتنا وغدها المشرق، وبالعلامات المضيئة على الطريق الطويل، طريق النضال الشاق والصعب، ولتكون برهانًا قويًّا على صلابة هذه الثورة، وروعة هذه الثورة، وقدرة هذه الثورة بالرغم من كل ما أحاط ويحيط بها من المؤامرات والمتآمرين، ومن المكائد والدسائس، ومن المعاناة والمصاعب، ومن الأهوال والآلام. ومع ذلك تتقدم ثورتكم لتشق بعزيمة أصيلة، وإرادة جبارة، رافعة راية النضال عالية وعلم الثورة خفّاقًا. يا شعبنا الصامد المثابر، لقد كانت السنة المنصرمة سنة حافلة بآلام كثيرة، ومصاعب جمة، حاولت قوى كثيرة أن تنال من وحدتنا ومن تراص صفوفنا، حاولت أن تنفذ -"عبثاً"- إلى اللبنات القوية، متوهمة أنها تستطيع أن تهز قناعات الثوار بزيف السراب، وأن تضعضع إيمان المناضلين أكاذيبُهم.
ولكن الشعب والثورة كانا أقوى من كل مخططاتهم وأصلب من كل دسائسهم. وبقيت الثورة شامخة أصيلة، ثابتة الجنان، عزيزة الجانب، وظل الشعب وفيًّا للمسيرة النضالية في دربها الثوري الكبير. وتوجت هذه المسيرة الثورية بكل هذا الزخم من الانتصارات المتتابعة على كل صعيد وفي كل اتجاه، في الأصعدة العربية، وفي الأصعدة الدولية، مع العمل العسكري ومع العمل الشعبي، من خلال التحرك السياسي والتحرك الديبلوماسي، وكانت في كل خطوة تخطوها تثبت قضايا شعبها وأهداف أمتها.
رغم كل ما حيك حول شعبنا الأصيل، وما خطط له من قبل الإمبريالية العالمية والصهيونية الغادرة، ومن القوى العميلة في منطقتنا. استطاع الثوار -الثوار الحقيقيون- أن يتجاوزوا المحن الكثيرة والآلام المتشعبة؛ ليصبوا في هذا النهر الخالد، نهر العطاء الثوري، دماءهم وأرواحهم وتضحياتهم، يهبونها مختارين، بلا ملل أو تردد، وبكل الكبرياء الثوري المتأصل في نفوسهم.
وليصنعوا المعجزة، وليفجروا الطاقات الكامنة، ويسطروا الملاحم الثورية؛ لتتهاوى الأساطير الباطلة أمام هذا العناد الجبار لشعبنا وثواره. وتنحسر اللجج بعد طوفانها الصاخب، فلا يبقى إلا الجلمود الثوري المتسامى المقدس لهذا الشعب، وثواره يصهرون في بوتقة نضالهم وكفاحهم كل المعطيات وكل الإيجابيات وليحولوا إلى حقائق مادية ثابتة راسخة في منطقتنا العربية، بأن هذه الأرض عربية، وستظل عربية، ولن يبقى فيها إلا إرادة واحدة هي إرادة أمتنا العربية العظيمة.
ويظل الثائر كحقيقة أزلية في تراثنا الوطني قابضًا بيد من حديد على بندقيته؛ لتظل مشرعة، تحمي أغصان الزيتون في ربوعنا الحبيبة خضراء، يتفيأ بظلها أطفال الغد وجيل الغد من شعبنا وأمتنا. بل إن إيمانه العظيم يتزايد بعظمة وخيلاء، وهو في مكمنه وفي معسكره، وفي أعالي جبالنا وبين أحراش ودياننا، وفي سهولنا الخضراء، وفي صحارينا الدافئة، يظل يترنم بأهازيجنا الشعبية الحبيبة، واثقًا من خطاه، متأكدًا من حتمية انتصار شعبه وثورته.
يا شعبنا العظيم، يا ثوارنا الأبطال،
يا مناضلينا المثابرين،
لتتحد كل الجهود، ولتتعانق جميع البنادق، ولتتلاحم جميع الأيدي لمواجهة المرحلة المقبلة، لمواجهة العام الجديد بكل ثقة واطمئنان وثبات وتحدٍّ، لمواجهة العام الجديد من عمر ثورتنا، عام التصعيد والتلاحم الثوري،
وما يترتب على هذا من مسؤوليات جسام كثيرة، وأعباء ثقيلة وخطيرة، وكفاح مكثف ومركز، ينفذ فيه المناضلون إلى الآفاق النضالية الجديدة، بخطوات واثقة، وإيقاعات مؤمنة ثابتة، وبعزيمة لا تكلّ، وإرادة لا تلين.
وإنها لثورة حتى النصر
أخوكم
أبو عمار1/1/1975