الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

رسالة ياسرعرفات في الذكرى الرابعة عشرة لانطلاقة الثورة الفلسطينية

18 كانون الأول 2024

رسالة ياسرعرفات في الذكرى الرابعة عشرة لانطلاقة الثورة الفلسطينية

 

عـــــــام الجــمر والنار

عـــــــام النور والأمــل

أيها الإخوة رفاق الدرب الطويل،

أيها الشعب الصامد المثابر،

أيها الأبطال في خنادق الثورة،

مر العام الرابع عشر من عمر ثورتنا المظفرة، لتدخل عامها الخامس عشر مزهوة بأكليل الغار والانتصارات على جباهها، ليسجل شعبنا في كتاب التاريخ ملاحم جديدة لنصره المؤزر الحتمي الأكيد.

مر هذا العام بتحدياته الشرسة ومؤامراته الخطرة، مؤامرة فرض العدو شروط الاستسلام على شعبنا وعلى أمتنا العربية، تلك الشروط الصهيونية الإمبريالية الأمريكية التي يريدونها وصمة عار وذل لأجيالنا المقبلة تحت أعقاب الغزاة الجديدة، ونير وسيطرة خططهم، وأطماعهم التوسعية الإمبريالية الصهيونية الهمجية. لقد تتابعت الأحداث في هذا العام، وتتابعت معها القرارات التاريخية الثورية الحاسمة في مواجهتها.

اتخذ ثوارنا الأبطال قرارهم الحاسم الثوري بالصمود ضد القرار العسكري الأمريكي الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، جنبا إلى جنب مع رفاقنا وإخوتنا في السلاح من المقاتلين اللبنانيين الوطنيين الشرفاء، لنسجل سويًّا انتصارًا عسكريًّا لأمتنا العربية طوال ثمانية أيام بلياليها، ضد ما يقارب ثلث الجيش الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة بأحدث الأسلحة الأمريكية وأكثرها فتكًا، بل والمحرمة دوليا وإنسانيا، وتكسرت على صخرة البطولة والشجاعة والفداء والتضحية، المؤامرة الخطرة لإبادة الثورة وإبادة قواتها وإبادة قيادتها. ذهبت مع دخان المدافع مقولة بيرجنسكي "وداعًا لمنظمة التحرير، باعتبارها كانت الضوء الأخضر لهذه الحملة العسكرية الإسرائيلية الهمجية.

وبقيت الثورة خفاقًا علمها، قويا وجودها، ثابتًا جنانها باعتبارها الحقيقة الثابتة الأصيلة في هذه المنطقة المهمة، المهمة والحساسة والمليئة بالمؤامرات، والمحفوفة بالأخطار.

ثم كان القرار الثوري الحاسم في تثبيت دعائم الثورة وكسر مخطط ضربها من الداخل، حيث تفتت على فولاذ هذا الأتون الثوري الأصيل جميع المحاولات وكل الضربات، بما فيها محاولات التصفية وأعمال الاغتيالات. وخرجت الثورة كأقوى ما تكون إيمانًا وثباتًا ورسوخًا، أمام هذه التحديات المتعددة والمتنوعة  الأشكال والغايات، وليبقى القرار الثوري قرارًا ثوريًّا فلسطينيًّا، دونما تبعية أو خضوع.

وجاء القرار الثوري الحاسم الثالث، القرار القنبلة الموقوتة التي فجرها شعبنا العظيم داخل أرضنا المحتلة في وجه ظلام مؤامرة كامب ديفيد ومؤامرة الحكم الذاتي، وذلك عندما أطلق صيحة الحقيقة، وصيحة الوجدان، وصيحة الضمير الثوري، وصيحة الإرادة الفلسطينية، بإدانته لهذه المؤامرة، ومواجهة جميع أشكالها وصورها، واتجاهاتها ومراميها وأهدافها.

ليس هذا فحسب، ولكنه اتبع هذا التصعيد العسكري المستمر والمتفجر لعمله النضالي وكفاحه المسلح من دون كلل أو ملل، طبقًا لخطة مدروسة وتخطيط ثوري، متحديًا كل إمكانيات العدو وحلفائه وعملائه، وليسجل بهذا مزيدًا من الانتصارات والملاحم والأساطير البطولية لشعبنا وأمتنا وتاريخنا.

خرج شعبنا بمعجزته هذه ليتردد صوتها عاليا في المنطقة كلها، وليذهل العالم بهذا الصمود وذاك التحدي، وهذا الفهم العميق والثابت لأبعاد الموقف، وليعطي الصورة الراسخة الواضحة لديمومة الثورة العارمة في حنايا هذا الشعب العظيم، شعب المعجزات شعب العطاء السخي، شعب الشهداء والمقاتلين، القرار الفلسطيني المستقل والإرادة المستقلة، شعب التضحيات الجسام، شعب الوعي الصادق، وشعب الوعد الأمين.

ثم كانت هنالك قرارات اخرى عديدة، مهمة ومصيرية في ابعادها السياسية والثورية وعلى مختلف الاصعدة، وفي شتى المجالات، فكانت قرارات الصمود والتصدي، ودورها الفاعل فيها. وكان دورنا في التحالف الاستراتيجي وفي الفرز الثوري لمعسكر الاعداء والاصدقاء في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الاوسط وفي الساحة الدولية.

لقد كانت مواقفنا واضحة في انطلاقتنا الاصيلة والثابتة مع الثوار والشرفاء ومع المجاهدين والصامدين في كل بقعة ثورية حقيقية،

وكانت وقفتنا المبدئية والقومية، مع كل موقف وحدوي في أمتنا العربية، وخاصة ما جاء فيها في مشرقنا العربي، وعلى ساحة التماس مع العدو في الجبهة الشمالية.

كل هذا من خلال مفاهيم واضحة وثابتة ومبدئية، نعطيها وتعطينا، ندعمها وتدعمنا، نقويها وتقوينا، ليصب هذا كله في المجرى الكبير للعنفوان الثوري الجارف، ضد جميع أشكال القهر والظلم والاضطهاد والعبودية، ضد الإمبرياليين الجدد والقدامى، ضد صهاينة الداخل والخارج، ضد الاستعمار القديم والحديث.

لذا كانت هذه القرارات الثورية الحاسمة في هذا المعترك وهذه الدوامة وسط رمال الشرق الاوسط المتحركة والخطيرة، تمثل هذه الأصالة الثورية والشفافية المستقبلية والرؤى الصادقة والإرادة الحديدية النضالية، والإيمان الراسخ العميق.

لهذا كانت المسيرة بكل أبعادها الحضارية والإنسانية، وعلى مختلف الأصعدة، فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، وبكل ما حفلت به من انفجار ثوري هادر، حمل من التغييرات ورياح التغيير في هذه المنطقة الشيء الكثير، والكثير جدًا، بعضها في مجرى التطور التقدمي ومع تيار التاريخ ومصيره الازدهار والفوز، وبعضها ضد مجرى التاريخ وضد منطق التطور، وهذه مصيرها الهزيمة والفشل.

وكان طائر البجع الفلسطيني وسط هذا كله عاملًا ديناميكيا في صنع هذه القفزات التقدمية الفاعلة والنشطة، ومرفرفًا بجناحيه بين حلفائه في الدول الاشتراكية، ورفاقه في دول عدم الانحياز وأشقائه في الدول الإسلامية.من إيران البركان الهادر في آسيا، إلى الثوار الأحرار في إفريقيا، إلى الأصدقاء العديدين في أمريكا اللاتينية.قابضًا بيد فولاذية على جذوره العميقة في أعمق أعماق الوطن، وأعمق أعماق التراب الفلسطيني مستمدًا من هذا التراث للثورة الحق، من جبل  الرحمة في عرفات، وانبلاج الحقيقة من مهد الرسالة، لتتجاوب معه أصوات المضطهدين والمناضلين والمجاهدين بين جنبات الأقصى والصخرة والقيامة في القدس الحبيبة الأسيرة المكبلة.

إن معنى هذا كله ومغزاه ومحتواه هو الدعم الكبير من معسكر الأصدقاء والحلفاء والأشقاء، وجميع القوى الديمقراطية والتقدمية، وهو الذي يصب في الحتمية الثورية للنصر الأكيد.

أيها الإخوة الأحبة،

يا شعبنا البطل،

 السنة الرابعة عشرة بما فيها من مفاجآت، وبما فيها من عطاء، وبما فيها من آفاق، وبما فيها من أحداث، سارت جميعها تخترق الصعاب وتصنع الملاحم، وتشق الدرب وتطرق أبواب المجد، وتكتب التاريخ بأحرف من نور ونار، وثورة وإيمان، وأصالة وعنفوان، وحنكة وحكمة.

واستطاعت أن تحيل الحصار المضروب حول الثورة، والذي يريد تصفيتها أو إضعافها أو احتواءها، إلى متراس ضارب بقوة دفاعًا عن هذه الثورة وشعبها ومكتسباته ووجوده وأهدافه.

ليس هذا فحسب، وإنما تمكنت من تحقيق المزيد من خطوات التوحيد والوحدة بين صفوفها، وتراص سواعدها باعتبارها الركيزة الهامة، ومعيارًا أساسيًّا لقدرتها على المواجهة والصمود والتصدي، وحدة شعبها أينما تواجد في أماكن تجمعاته، داخل الوطن وخارج، معبرًا بذلك عن ذاته الثورية، وأصالته العربية، وجذوره القومية، بإرادة صلبة، وعزيمة جبارة، ومشكّلًا بوحدة قواه المقاتلة تحت العلم الخفاق مزيجًا فريدًا في الالتحام والتكامل.

وهنا لا بد لنا من أن نؤكد على أهمية الالتزام الديمقراطي قولًا وعملًا، فكرا وممارسة، وأن نعي أن الديمقراطية التزام وعطاء، من أجل الثورة وفي سبيل الشعب، وليست مدخلًا أو وسيلة لتحقيق بعض الذات أو بعض المكاسب التنظيمية الضيقة هنا وهنالك، على حساب المبادئ والمثل والأهداف، وعلى حساب هذا الشعب البطل العظيم.

سنة بعد سنة، والثورة تكبر، تشتد وتتألق، وتصبح الثورة الفلسطينية ظاهرة، رغم كل الحسابات والتوقعات للمخططات المشبوهة المعادية، كبيرة بحجم الوجود، واضحة بقوة الحقيقة، دافعة في المسار التاريخي والتطور الطبيعي والحتمي، الرسالة الحضارية والتقدمية لمسيرة الثورات ضد جميع أشكال الظلم والقهر والاستبداد، نارًا على رأس علم، ونورًا يهديها، تتجمع حول مشاعل الثوار في فوهات بنادقهم، وتصبح ثورة، ثورتنا العملاقة هذه، نقطة الانعطاف في هذا المجرى الحضاري والتقدمي في هذه المنطقة، بكل ما تعنيه هذه المنطقة لأعدائنا، في موقعها الإستراتيجي، ومخزونها النفطي، واحتياطها الاقتصادي. ولذا كان علينا أن نفهم السبب الدفين لهذا التكالب الشرس الذي يحاول أن يضرب الثورة ويقضي عليها، لتبقى هذه المنطقة فريسة سهلة، ولتستمر هذه الأرض ميدانا يمارس فيه أعداؤنا خبراتهم الجهنمية لنهب خيراتنا وثوراتنا من دون رقيب أو حسيب، بل بمساعدة العملاء في أمتنا العربية، الذين أعمتهم العمالة، فراحوا يفرشون الأرض، أرضنا الطاهرة المقدسة باتفاقات ومعاهدات مسمومة، يسير عليها أعداء أمتنا إلى قلب هذه الأمة، يغرزون فيها خناجرهم المسمومة ويفرضون عليهم سيطرتهم الكاملة، تحت شعارات السلام المزيف المبرمج والمخطط له، والذي يشكل خطرًا داهما، ليس على فلسطين وحدها، وليس على شعبنا الفلسطيني فقط، وليس ضد ثوارنا الأبطال بمفردهم، ولكن ضد أمتنا العربية ومستقبلها ومصيرها، وضد هذه المنطقة المسماة في عرفهم منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي ما يشكل كل هذا من آثار عديدة وخطيرة على مجمل السلام العالمي.

وهنا لا بد أن تنطلق صيحتنا، لكي يسمعها العالم أجمع، وبالذات الأحصنة الخشبية التي تجر عربة كامب ديفيد. وإنني أطلقها باسم شعبنا وثواره، وباسم جماهير أمتنا العربية وشرفائهم، وباسم الأحرار والشرفاء في العالم أجمع، أنه لا سلام ولا أمن ولا حل ولا استقرار في هذه المنطقة بالقفز على جوهر المشكلة والأساس فيها، بالقفز على حقوق شعبنا الفلسطيني الوطنية الثابتة، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني، تحت قيادته الوحيدة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي اعترف بها كافة المستويات الصديقة والحليفة والعربية والدولية.

ونحن في هذا إنما نشق طريقنا مع جميع هؤلاء الشرفاء والأشقاء والحلفاء والأصدقاء نحو السلام العادل والوطيد في الشرق الأوسط، سلام دائم بعدالته، سلام وطيد مع الحقيقة والأصالة والطمأنينة المستمرة فيه، وليس سلام الأقوياء على الضعفاء، وليس سلام إملاء شروط الاستسلام وفرض الهيمنة والسيطرة، من خلال أحلام الإمبراطوريات الواهية، وأحلام المستعمرين ومستوطناتهم، وحدود الأمن ومصادر المياه المؤدية إلى منابع النفط.

وليكن واضحًا وضوح دم الشهداء، أن ثورتنا العملاقة لم تنهزم أمام هذا العدو الصهيوني، أمام آلته العسكرية الإمبريالية، فلماذا نخضع لشروطه ونركع مع الراكعين لأوامر الاستسلام التي يفرضها عليهم؟! إنها ثورة شامخة كالطود، ثابتة كجبال بلادنا، قوية بشعبها وثوارها، ولن ترهبنا الحملات العسكرية المستمرة، ولا الغارات الجوية، ولا البطش ولا الإرهاب والقهر ولا الفاشيون والنازيون الجدد. إن نصرنا الحتمي آتٍ، طال الزمن أم قصر، شاء أعداؤنا أم أبوا؛ فهذه إرادة التاريخ، إرادة الدم والساعد العربي الفلسطيني، إرادة الكبرياء في أمتنا العربية، إرادة الانتصار لكل ما هو شريف شجاع وعادل في البشرية التقدمية جمعاء.

هذه الحقائق يجب أن يعيها من يرسمون أو يحاولون أن يرسموا خرائط المنطقة. خرائطها السياسية الجديدة أو يحاولون أن يثبتوا تحالفات مقبلة متلونة.

يجب أن يرسخ في أذهانهم -إن كانت تستجيب أو تصيخ السمع- أن هذه المخططات للتصفية، وللسيطرة والهيمنة، وسحق الأوطان واستعباد الشعوب، على مائدة كامب ديفيد أو بلير هاوس، لن تمر إلا على أجساد المناضلين والشرفاء والثوار في أمتنا العربية، وجميع المجاهدين الصادقين في هذه المنطقة برمتها.

هذه ملامح سريعة وصورة عجلى لما نحن فيه، وما نحن مقبلون عليه في عامنا الخامس عشر لثورتنا الجبارة العملاقة، بمسيرتها الطويلة الشاقة، عام الجمر والنار، عام النور والأمل، عام الأحداث والمفاجآت المهمة؛ فهلا وعَينا هذه المسؤوليات وأثقالها؟ فهلا وعينا هذه التوقعات واحتمالاتها؟

يا شعبنا العظيم، يا شعب المعجزة المستمرة، يا شعبنا البطل والرمز والمثل والهدف، الطريق طويل وصعب وشاق، ولكن دائما وأبدا هذا هو طريق الحرية والحياة والمجد والكرامة.

حنانيك يا شعبنا وأنت تحتضن مواكب الشهداء الأبرار فيك.

حنانيك يا شعبنا وأنت ترنو إلى معتقليك وأسراك بزهوهم وكبريائهم.

حنانيك يا شعبنا وأنت تصنع المجد حولك.

حنانيك يا شعبنا وأنت تشق الظلمات إلى النور بخطواتك الجبارة.

حنانيك يا شعبنا وأنت تصنع المعجزة كل يوم مع ثوارك.

حنانيك يا شعبنا وأنت تسطر الملحمة في كل منعطف مع مناضليك. وسنبقى معًا كتفًا إلى كتف، وساعدًا إلى ساعد، حتى أسوار القدس؛ ليرتفع عليها علم واحد، علم ثورتنا وعلم أمتنا العربية بألوانه الزاهية الأربعة.

وإنها لثورة حتى النصر.

أخوكم: أبو عمار1/1/1979