الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

كلمة ياسر عرفات في مؤتمر وزراء خارجية عدم الانحياز في نيودلهي

18 كانون الأول 2024

كلمة ياسر عرفات في مؤتمر وزراء خارجية عدم الانحياز في نيودلهي

 

 

السيد رئيس وزراء الهند،

السيد رئيس المؤتمر وزير الخارجية،

أصحاب المعالي والسعادة رؤساء وأعضاء الوفود،

السيدات والسادة،

اسمحوا لي أن أحيي السيد ديفي جاودا رئيس وزراء الهند، على حضوره هذه الجلسة الخاصة حول فلسطين، وأن أشكره باسم الشعب الفلسطيني، على حفاوة الاستقبال، وكرم الضيافة، وعلى مواقف الدعم الثابتة والمتواصلة والدافئة التي تقفها الهند الصديقة حكومة وشعبًا، مع النضال العادل الذي يخوضه شعبنا، من أجل استعادة وممارسة حقوقه الوطنية الثابتة، وفي مقدمتها حقه بالعودة وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.

ويسرني -ونحن نجتمع من جديد، على أرض الهند الصديقة، أرض الحضارات والتسامح، وفي رعاية حركتنا الرائدة- أن نستذكر الدور القيادي البارز الذي قدمته الهند، وقادتها العظام إلى جانب القادة الكبار في إفريقيا وآسيا وأمريكيا اللاتينية؛ من أجل بناء هذه الحركة، واضطلاعها بدورها في مناهضة الاستعمار والاحتلال والتمييز العنصري، وفي دعم الشعوب من أجل تحررها واستقلالها، وبناء اقتصادها الوطني، وضمان التقدم والرفاهية لشعوبها، مؤكدين على دور حركتنا الهام في مواجهة المتغيرات والمستجدات الدولية، وفي تأمين دور فاعل لها في صنع المستقبل، في ظل النظام العالمي الجديد، وحتى لا يكون هذا النظام على حساب شعوبنا، وإنما نكون فيه كحركة عدم انحياز، فاعلين في رسم سياسته، من أجل مستقبل بلداننا وشعوبنا.

كما أتوجه بالتحية والإكبار إلى السيد كوفي عنان السكرتير العام للأمم المتحدة، على حضوره هذا الاجتماع لدول عدم الانحياز، والذي يعتبر أحد القادة الكبار لحركتنا، وهو في موقعه الحالي في الأمم المتحدة.

أصحاب المعالي والسعادة،

السيدات والسادة،

يشرفني أن أتقدم إليكم جميعًا بالشكر والتقدير العميق، لإتاحة الفرصة لي لمخاطبتكم مباشرة، ووضعكم في صورة التطورات السياسية الخطيرة التي تمر بها قضية الشعب الفلسطيني، وكذلك عملية السلام في الشرق الأوسط.

لا شك أنكم -أيها الإخوة الأصدقاء في حركة دول عدم الانحياز الرائدة التي نعتز بالانتماء إليها- تتابعون، عن كثب وباهتمام كبير، تداعيات الأوضاع الخطيرة والمأساوية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، وما آلت إليه عملية السلام في المنطقة من مأزق وأزمة خطيرة تهددها بالانهيار التام، وبتقويض ونسف كل الآمال والمنجزات التي تحققت في ظلها، وذلك جراء استمرار سياسات ومواقف حكومة إسرائيل الحالية التي تستند إلى غطرسة القوة والتعنت والإملاءات وفرض الأمر الواقع، والتي تتمثل في تكثيف ودعم وتمويل النشاطات الاستيطانية اليهودية، الجارية على قدم وساق وفي كافة المناطق الفلسطينية، وتقييد حرية حركة المواطنين والعمال الفلسطينيين والبضائع والمنتجات الزراعية من وإلى مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تواصل تنكرها لعملية السلام، وللمرجعية التي قامت عليها هذه العملية، ألا وهي مبدأ الأرض مقابل السلام وفق قراري مجلس الأمن 242 و338 وكما أن  حكومة إسرائيل تسعى إلى استبدال الأسس والمفاهيم التي استندت إليها مسيرة السلام منذ انطلاقتها في مدريد بأسس ومفاهيم وتفسيرات غريبة، لا تمت الى عملية السلام بصلة، هذا  إلى جانب رفضها تنفيذ الالتزامات المترتبة عليها في الاتفاق الانتقالي واستمرارها في انتهاك بنود الاتفاقات الموقعة بيننا، وخاصة مصادرة الأراضي والاستيطان وعدم تنفيذ الانسحاب من الأراضي الفلسطينية وعزل القدس وتهويدها فهي تتهرب وتماطل في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في واشنطن والقاهرة، تحت حجج وذرائع واهية، لا تتفق مع مناخ وروح السلام الذي نعمل من أجله، الأمر الذي يتعارض تمامًا مع الأعراف والقوانين الدولية، ومع قرارات الشرعية الدولية، وكافة الاتفاقات المبرمة.

إن السلام في المنطقة كلها في خطر، ومهما تم تقديمه من تبريرات فإنه من المؤسف أن تستغل الحكومة الإسرائيلية استعمال الولايات المتحدة لحق النقض الفيتو مرتين في مجلس الأمن، للاستمرار في عدوانها وتحديها للشرعية الدولية.

أصحاب المعالي والسعادة،

أيتها السيدات، أيها السادة،

إن ما تشهده الأرض الفلسطينية من ممارسات إسرائيلية، وإجراءات أمنية مشددة، وحشودات عسكرية حول المدن والتجمعات الفلسطينية، هو بمثابة إعلان حرب، ليس على الشعب الفلسطيني فقط، بل على عملية السلام، وكذلك على كل المؤمنين بهذا السلام والحريصين على تقدمه ونجاحه في المنطقة. وفي هذا السياق فإن الحصار الاقتصادي والعقاب الجماعي المفروضين على شعبنا، وعلاوة على تناقضمها مع مبادىء ونصوص اتفاقات السلام، فهما يشكلان كارثة للاقتصاد الفلسطيني الناشئ، وتتراوح خسائرنا اليومية بين سبعة وتسعة ملايين دولار يوميًّا. إن هذا الرقم يشكل ثلاثة أضعاف المبلغ الذي تقدمه –مشكورة- الدول المانحة للشعب الفلسطيني، ويترافق مع هذا كله قيام الحكومة الإسرائيلية بهجمة استيطانية شاملة؛ بهدف تهويد القدس، وتفريغها من سكانها، وقطع أوصالها، وعزلها عن محيطها الفلسطيني، وتحويل الأرض الفلسطينية  إلى كانتونات تدور في الفلك الإسرائيلي .

إن هذه السياسة سوف تنسف عملية السلام من جذورها؛ لأننا قمنا بالمشاركة كوفود عربية في مؤتمر مدريد للسلام، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، سلام الشجعان، ولكن الحكومة الإسرائيلية ترفض اليوم هذه الأسس، وتريد الأمة العربية مع دول عدم الانحياز ومع العالم، على حسابنا كشعب فلسطيني، وعلى حساب أرضنا ومقدساتنا. إن حكومة إسرائيل الحالية ترفض سلام الشجعان الذي وقعناه في البيت الأبيض، تحت رعاية الرئيس كلينتون.

إن المادة الخامسة من اتفاق أوسلو أيلول /1993 تتضمن نصًّا صريحًا بعدم المساس بوضع القدس في المرحلة الانتقالية، هذا  إلى جانب قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية الخاصة بها، وكذلك كتاب الضمانات الأمريكي المقدم لنا في مؤتمر مدريد للسلام، والذي يمنع إجراء أي تغييرات ديمغرافية  في الأراضي الفلسطينية وفي القدس من طرف الإسرائيليين، في المرحلة الانتقالية، وهذا النص الصريح يلزم حكومة إسرائيل بعدم القيام بأي إجراء منفرد، منذ لحظة التوقيع على هذا الاتفاق. إن تغيير الوضع في القدس، بالمصادرة والحفر والهدم وإقامة المستوطنات، يعد مخالفًا لالتزام إسرائيل الذي وقعت عليه في أوسلو، وعليه فإن النشاطات الاستيطانية في جبل أبو غنيم بمدينة القدس الشرقية المحتلة عام 67 تعتبر باطلة ولاغية، ولكن حكومة إسرائيل ما زالت تصر على الاستمرار في عمليات مصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وشق الطرق الالتفافية، وتكثيف النشاطات الاستيطانية في مدينة القدس والأراضي الفلسطينية.

وفي هذا الإطار فإن قرار الحكومة الإسرائيلية ببناء مستوطنة جديدة في جبل أبو غنيم الواقع في القدس الشرقية المحتلة، وفي غيرها من الأماكن الفلسطينية الأخرى، يعتبر تحديا صارخًا لإرادة المجتمع الدولي، وانتهاكًا فاضحًا لقرارات الشرعية الدولية، ولقرارات حركة عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والقمم العربية، ولكافة الاتفاقات المبرمة. إن قرارات القمة الإسلامية في إسلام أباد، وقرارات لجنة القدس في مدينة الرباط، وقرارات وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وقرارات الجامعة العربية؛ كلها تؤكد إدانة الأمة العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز والعالم كله لهذه الاجراءات الخطيرة. إنني أريد أن أشير -بصراحة ومسؤولية-  إلى أن هذه الانتهاكات الإسرائيلية في القدس تعتبر اعتداء على مشاعر المؤمنين من مسيحين ومسلمين؛ نظرا لمكانة القدس الدينية، وأهميتها الحضارية والتاريخية .

إن هذا القرار يهدف  إلى عزل مدينة القدس، وإقامة مدينة بديلة لمدينة بيت لحم، خاصة وأننا نستعد في مدينة بيت لحم مدينة المهد للاحتفال بمرور ألفي عام على ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام.

إنه من المحزن جدًّا أن يأتي هذا القرار، وتلك الإجراءات الإسرائيلية الأخرى لتبدد وتنسف الآمال الكبيرة التي نشأت عقب بروتوكول تنفيذ اتفاق الخليل، الذي تم التوصل إليه إثر جهود مكثفة،  ومفاوضات صعبة وشاقة. علاوة على ذلك فإن قرار الحكومة الإسرائيلية المتعلق بإعادة الانتشار والانسحاب من 2% فقط من المنطقة (ج) في الضفة الغربية ليس إلا خديعة ومؤامرة ضد السلام؛ الأمر الذي أدى  إلى تأزيم وتفاقم الوضع، وأسهم في خلق أجواء التوتر وعدم الاستقرار، واستمرار خرق حكومة إسرائيل للاتفاقات الموقعة، ورفضها الالتزام بتنفيذ ما ترتب عليها من استحقاقات في الاتفاق.

أيتها السيدات، أيها السادة،

الإخوة الأصدقاء،

إن حرصنا على استمرار مسيرة السلام على كافة المسارات العربية الأخرى، وخاصة المسارين السوري واللبناني، ولإنقاذ العملية السلمية من المأزق الخطير الذي آلت إليه، بسبب هذه السياسات والمواقف الإسرائيلية المتعنتة؛ دفعنا لدعوة كافة الأطراف الموقعة والشاهدة على اتفاقات السلام للمشاركة في المؤتمر الدولي الذي عقد في غزة في الشهر الماضي؛ من أجل مساعدتنا في إيجاد أفضل السبل والآليات لإخراج هذه العملية من المأزق الخطير، وإعادتها  إلى مسارها الصحيح.

وكما هو معلوم فإن هذا الهدف لن يتحقق إلا بالتزام إسرائيل بمرجعية عملية السلام، والتنفيذ الدقيق والأمين لكافة بنود الاتفاق المرحلي الفلسطيني الإسرائيلي، والتوقف عن مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات اليهودية فيها، وإنهاء إجراءات الإغلاق والحصار لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية،  إلى جانب الكف عن سياسة الإملاءات وفرض الأمر الواقع لتحديد ورسم خريطة الحل النهائي من جانب واحد.

وفي ضوء هذه التطورات والتداعيات الخطيرة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وما لها من تأثير بالغ على الأمن والسلم العالمي، فإننا نواصل بذل كل جهد ممكن لإنقاذ عملية السلام، وفي القمة الإسلامية في إسلام أباد، واجتماع لجنة القدس في الرباط، والاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية في القاهرة، تم اتخاذ القرارات  والتوصيات الهامة التي تدعم وتؤيد الموقف الفلسطيني العادل، وتطالب الحكومة الإسرائيلية بالتوقف فورا عن بناء المستوطنات، وخاصة في مدينة القدس وإيقاف محاولة تهويدها، والالتزام بتنفيذ الاتفاقات المبرمة، واحترام مرجعية عملية السلام. كما تدعو هذه القرارات الدول الشقيقة والصديقة التي شرعت في إقامة علاقات مع اسرائيل  إلى ربط التقدم في هذه العلاقات بمدى التزام إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة، وتنفيذ الالتزامات والتعهدات المترتبة عليها في الاتفاقات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية والمسارات العربية الأخرى. إنه من هذا المنطلق، منطلق ضرورة إنقاذ عملية السلام فإننا نأمل بتضافر جهودكم معنا؛ من أجل اتخاذ قرار في الجمعية العامة في الأمم المتحدة تحت بند الاتحاد من أجل السلام United for peace، مناشدا كافة الدول الأعضاء اتخاذ الترتيبات اللازمة للرد السريع على رسالة الأمين العام للأمم المتحدة، حول ضرورة وأهمية عقد الجلسة الخاصة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة في أقرب فرصة ممكنة,

السيدات والسادة،

الإخوة والأصدقاء،

انطلاقا من هذه التوجهات لإنقاذ عملية السلام فإننا نهيب بكم جميعا كأعضاء في حركة دول عدم الانحياز، مثلما نهيب بكافة الشعوب المحبة للسلام لدعمنا في هذه المرحلة الحساسة، واستمرار تقديم الدعم والتأييد اللازم لجهود منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، الهادفة لإعادة عملية السلام  إلى مسارها الصحيح، واتخاذ وتبني القرارات والتوصيات الضرورية لدعم عملية السلام التي تكفل للشعب الفلسطيني إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضه ومقدساته، واستعادة وممارسة الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، هذا السلام الذي يعيد كذلك للشعبين الشقيقين السوري واللبناني أراضيهما المحتلة في الجولان وفي جنوب لبنان .

إنني من على هذا المنبر أقول لإخوتنا وأصدقائنا في دول عدم الانحياز والممثلين هنا بالوفود المشاركة، بأن القدس الشريف وما حولها هي أمانة وضعها الله سبحانه وتعالى في أعناق كل المؤمنين وكل محبي العدل والسلام في العالم، وإن إنقاذها من غول الاستيطان وخطر التهويد الكامل هو مسؤولية عالمية شاملة؛ فالقدس هي جوهر القضية الفلسطينية، ومفتاح السلم والحرب في المنطقة، وهي في وجدان وضمير كل المؤمنين في العالم، وبالتالي لا سلام إلا بعودة القدس الشريف  إلى أصحابها الشرعيين، عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، ولا سلام مع الاستيطان الذي يبتلع الأرض الفلسطينية والعربية ويحولها  إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض.

لذا فإنني -أيها الإخوة الأصدقاء- أناشدكم ثانية استخدام كل ما لدى حكوماتكم ودولكم الشقيقة والصديقة من إمكانات وتأثير، من أجل إنقاذ عملية السلام، سلام الشجعان، من هذا المأزق الذي دفعته إليه حكومة إسرائيل الحالية، وكذلك توفير كل الدعم السياسي والمادي والمعنوي للشعب الفلسطيني المرابط في أرض وطنه، أمام هذه الهجمة الخطيرة.

وفي الختام، اسمحوا لي -أيها الإخوة والأصدقاء- أن أتوجه بالشكر والتقدير العميق لجمهورية الهند الصديقة رئيسًا وحكومة وشعبًا؛ على دعمها المتواصل لشعبنا ونضاله العادل والتي تستضيف هذا المؤتمر على هذه الأرض الطيبة للشعب الهندي الصديق، كما أتوجه من خلالكم بالشكر والتقدير الكبير  إلى حكوماتكم ودولكم الشقيقة والصديقة التي تقف باستمرار  إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وحقوقه المشروعة. كلنا أمل وثقة بأن تتكلل أعمال اجتماعكم الوزاري هذا بالنجاح، لما فيه خدمة حركتنا الرائدة والدفاع عن مبادئها السامية ولتحقيق أهدافها النبيلة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.