الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 1974

15 كانون الأول 2024

خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 1974

 

خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 1974
سيدي الرئيس،
أشكر لكم دعوتكم منظمة التحرير الفلسطينية لتشارك في هذه الدورة من دورات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، وأشكر كل الأعضاء المحترمين في هيئة الأمم المتحدة الذين أسهموا في تقرير إدراج قضية فلسطين على جدول أعمال هذه الجمعية وفي إصدار قرار بدعوتنا لعرض قضية فلسطين.

إنها لمناسبة هامة أن يعود بحث قضية فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة، وإننا نعتبر هذه الخطوة انتصارًا للمنظمة الدولية، كما هو انتصار لقضية شعبنا، وإن ذلك يشكل مؤشرًا جديدًا على أن هيئة الأمم اليوم ليست هيئة الأمم أمس؛ ذلك لأن عالم اليوم ليس هو عالم الأمس.

فقد أصبحت هيئة الأمم اليوم تمثل 138 دولة، وأصبحت تعكس بصورة نسبية أوضح إرادة المجموعة الدولية، ومن ثم فقد أصبحت أكثر قدرة على تطبيق ميثاقها، ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأكثر قدرة على نصرة قضايا العدل والسلام.

وهذا ما بدأ يلمسه شعبنا، وتلمسه شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ الأمر الذي أخذ يُعلي مكانة هذه المنظمة الدولية في عيون شعبنا وعيون بقية الشعوب، ويزيد من الآمال التي تعلقها شعوب العالم على مساهمة هيئة الأمم المتحدة في نصرة قضايا السلم والعدل والحرية والاستقلال، وتشييد عالم خالٍ من الاستعمار والإمبريالية،  والاستعمار الجديد، والعنصرية بكافة أشكالها، بما فيها الصهيونية .


سيدي الرئيس،

إننا نعيش في عالم يطمح للسلام والعدل والمساواة والحرية، يطمح إلى أن يرى الأمم المظلومة الرازحة تحت الاستعمار والاضطهاد العنصري وهي تمارس حريتها وحقها في تقرير المصير، يطمح إلى أن يرى العلاقات الدولية بين الدول كافة تقوم على أساس المساواة والتعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون  الداخلية، وتأمين السيادة الوطنية .

وما زالت دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تواجه اعتداءات ضارية على نضالها من أجل تغير النظام الاقتصادي العالمي، الحالي بنظام اقتصادي عالمي جديد أكثر معقولية ومنطقية، وقد عبرت هذه البلدان عن ذلك في مؤتمر ((المواد الأولية والتنمية)) حيث لابد أن يوضع حد لعمليات النهب والاستغلال، وامتصاص ثروات الشعوب الفقيرة، وعرقلة جهودها من أجل التنمية، والسيطرة على ثرواتها، ورفع الحيف عن أسعار موادها الأولية .

وكذلك فإن هذه الدول ما زالت تواجه عراقيل أمام مطالبها العادلة المعبر عنها في مؤتمر البحار في كرا كاس، ومؤتمر السكان، ومؤتمر التغذية، ولابد للهيئة الدولية من أن تقف بحزم إلى جانب النضال من أجل إحداث تغيرات جذرية في النظام الاقتصادي العالمي؛ لأن ذلك –وحده- يتيح للشعوب المختلفة إمكانية التقدم بسرعة. ولابد لهذه الهيئة من أن تقف بحزم ضد القوى التي تحاول تحميل مسؤولية  التضخم المالي على كاهل البلدان النامية، خاصة البلدان المنتجة للبترول، وأن تشجب التهديدات التي تتعرض لها هذه البلدان بسبب مطالبها العادلة.

سيدي الرئيس،


ما زال السباق على التسلح على أشده في العالم، الأمر الذي يهدد العالم بضياع ثروته وتبديد جهوده على هذا السباق، فضلًا عن إبقائه في خيار انفجارات مسلحة خطيرة. إن الحد من السباق على التسلح، وصولًا إلى تدمير الأسلحة النووية وتخصيص ما يصرف من مبالغ طائلة على مجالات التقنيات العسكرية في ميدان تقدم العلوم وزيادة الإنتاج وتحقيق الرفاه للعالم؛ هذا ما تتوقع الشعوب أن تعمل هيئة الأمم المتحدة باتجاهه. وما زال الاضطراب على أشده في منطقتنا، فالكيان الصهيوني متشبّث بالأراضي العربية التي احتلها، ويتابع عدوانه علينا، بجانب استعداداته العسكرية المحمومة بشن حرب عدوانية جديدة ستكون الخامسة من سلسلة حروبه العدوانية، ولنا أن نتحسّب -مع ما يصدر من إشارات عنه- من أن تكون حربًا نووية تحمل الفناء والدمار.
سيدي الرئيس،

إن العالم بحاجة إلى أقصى الجهود من أجل تحقيق مطامحه في السلم والحرية والعدل والمساواة والتنمية، وفي مكافحة الاستعمار والإمبريالية والاستعمار الجديد، والعنصرية بكافة أشكالها بما فيها الصهيونية؛ لأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق آمال الشعوب كافة، بما في ذلك شعوب الدول التي تعارض هذا الطريق، إنه طريق لتكريس مبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إما بقاء الوضع الحالي فلن يفعل أكثر من أن يُبقي العالم معرضًا لأخطر الصراعات المسلحة، للكوارث الاقتصادية والإنسانية والطبيعية .


سيدي الرئيس،

رغم هذا الوضع المتأزم الذي يسود العالم، ورغم ما في عالمنا من قوى ظلام وتأخر، فإن عالمنا اليوم يعيش أيامًا مجيدة، إنه يشهد انهيار العالم القديم عالم الاستعمار والإمبريالية والاستعمار الجديد والعنصرية بكافة أشكالها وأبرزها الصهيونية، ويشهد الاتجاه التاريخي العظيم لشعوب العالم نحو انبثاق عالم جديد تنتصر فيه القضايا العادلة، وإننا واثقون من انتصار هذه القضايا.


سيدي الرئيس،

إن قضية فلسطين تدخل كجزء هام بين القضايا العادلة التي تناضل في سبيلها الشعوب التي تعاني الاستعمار الاضطهاد، وإذا كانت الفرصة قد أُتيحت لي أن أعرضها أمامكم، فإنني لن أنسى أن مثل هذه الفرصة يجب أن تتاح لكل حركات التحرر المناضلة ضد العنصرية والاستعمار، في تقرير مصيرها، أدعوكم أن تعيروا قضاياهم، كما قضيتنا، من همومكم واهتمامكم الأولوية ذاتها؛ مما يشكل مرتكزًا أساسيًا لحماية السلم في العال،م وتكريس عالم جديد تعيش الشعوب في ظلاله بعيدًا عن الاضطهاد والظلم والخوف والاستغلال، ولهذا فإنني سأعرض قضيتنا ضمن هذا الإطار، وفي سبيل هذا الهدف .

وإننا حين نتكلم من على هذا المنبر الدولي، فإن ذلك تعبير في حد ذاته عن إيماننا بالنضال السياسي والدبلوماسي،  مكمّلًا معززًا لنضالنا المسلح، وتعبيرًا عن تقديرنا للدور الذي يمكن للأُمم المتحدة أن تقوم به في حل المشكلات العالمية، بعد أن تغيرت بنيتها في صالح أماني الشعوب، وفي حل مشكلتنا التي تتحمل فيها المؤسسة الدولية مسؤولية خاصة .

إن شعبنا يتكلم وهو يتطلع إلى المستقبل أكثر مما هو مقيد بمآسي الماضي وأغلال الحاضر. وإذا كنا، ونحن نتحدث عن الحاضر، نعود إلى الماضي؛ فلأننا نريد أن نوضح بداية الطريق الذي نشقّه إلى المستقبل المشرق مع كل شعوب العالم عامة، وحركات التحرير خاصة. وإذا كنا نعود إلى جذور قضيتنا فإنه ما زال بين الحاضرين هنا من يحتل بيوتنا، ويرتع في حقولنا، ويقطف ثمار أشجارنا، ويدّعي أننا أشباح لا وجود لها، ولا تراث ولا مستقبل. وإن هناك من كان يتصور، وإلى وقت قريب، وربما حتى الآن، أن مشكلتنا هي مشكلة لاجئين، أو أن مشكلة الشرق الأوسط هي مشكلة خلاف على حدود بين الدول العربية وبين الكيان الصهيوني، أو يتصور أن شعبنا يدعي حقوقًا ليست له، ويقاتل دونما سبب معقول ومشروع إلا الرغبة في تعكير السلام وإرهاب الآخرين. ولأن هناك بينكم وأعني الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من يمون عدونا بطائراته وقنابله وكل أدوات الفتك والتدمير، ويقف منا موقف العداء، ويعمد إلى تشويه حقيقة المشكلة، كل ذلك على حساب الشعب الأمريكي، وعلى حساب رفاهيته، وعلى حساب الصداقة التي نتطلع إليها مع هذا الشعب العظيم الذي نُكنّ له ولتجاربه في النضال من أجل حريته ووحدة أرضه كل تقدير.

وإنني لأنتهز هذه المناسبة لأتوجه إلى الشعب الأمريكي وأُخاطبه من مكاني هنا، أن يقف مع شعبنا الشجاع المناضل، أن يقف مع الحق والعدالة، أن يتذكر بطله جورج واشنطن الذي ناضل لاستقلال أمريكا وحريتها، ويتذكر أبراهام لنكولن الذي وقف مع المحرومين والمعذبين، ويتذكر وصايا ويلسون الأربع عشرة والتي يتبناها شعبنا، إيمانًا بهذه المبادئ الإنسانية العظيمة.

وأتوجه إلى الشعب الأمريكي وأتساءل: هل هذه التظاهرات المعادية التي تنطلق في الخارج هي وجهه الحقيقي؟! وما هي الجريمة التي ارتكبها شعبنا ضد الشعب الأمريكي؟!

 لماذا هذا الوجه المعادي؟ هل هو لصالح أمريكا؟ هل هو لصالح الجماهير الأمريكية؟ حتمًا لا. وأرجو أن يتذكر الشعب الأمريكي أن صداقته مع  أُمتنا العربية هي أهم، وهي أبقى، وهي أنفع.

 

 

 

سيدي الرئيس،


 إن شرحنا لجذور قضيتنا نابع من إيماننا بأن العودة إلى أُصول القضايا التي تشغل العالم أمر ضروري عند تلمّس الحلول لها. وهذا منهج نطرحه على السياسة الدولية، لتأخذ به بعد أن عانت الكثير، وعانت الشعوب معها من المحاولات تجاهل الأصول والقفز عليها أو إنكارها، رضوخًا واستسلامًا للأمر الواقع.

ترجع جذور المشكلة الفلسطينية إلى أواخر القرن التاسع عشر، أو بكلمات أُخرى إلى ذلك العهد الذي كان يسمى عصر الاستعمار والاستيطان، وبداية الانتقال إلى عصر الإمبريالية، حيث بدأ التخطيط الصهيوني_ الاستعماري لغزو أرض فلسطين بمهاجرين من يهود أوُروبا، كما كان الحال بالنسبة للغزو الاستيطاني لإفريقيا. في تلك الحقبة التي توطدت فيها سطوة عتاه الاستعمار القادمين من الغرب إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، للاستيطان وإقامة المستعمرات، وممارسة أشد أشكال الاستغلال والاضطهاد والنهب لشعوب القارات الثلاث. إنها الحقبة التي ما زلنا نشهد آثارها العنصرية البشعة في الجنوب الإفريقي، وكذلك في فلسطين.

وكما استخدم الاستعمار والمستوطنون أفكار ((التمدّن والتحضّر)) لتبرير الغزو والنهب والعدوان في إفريقيا وغيرها، كذلك استخدمت هذه الذرائع لغزو فلسطين بموجات المهاجرين الصهاينة. وكما استخدم الاستعمار والمستوطنون الدين واللون والعرق واللغة لتمرير عملية استغلال الشعوب وإخضاعها بالتمييز والتفرقة والإرهاب في إفريقيا، كذلك استخدمت هذه الأساليب لاغتصاب الوطن الفلسطيني، واضطهاد شعبه ومن ثم تشريده.

وكما استخدم الاستعمار، وقتئذ، المحرومين والفقراء والمستغلين كوقود لنار عدوانه، ومرتكزات الاستيطان، كذلك استخدم الاستعمار العالمي والقادة الصهاينة اليهود المحرومين والمضطهدين في أُوروبا كوقود للعدوان ومرتكزات للاستيطان والتمييز العنصري.

إن الإيديولوجية الصهيونية التي استُخدمت ضد شعبنا لاستيطان فلسطين بالغزاة الوافدين من الغرب استخدمت في الوقت ذاته لاقتلاع اليهود من جذورهم في أوطانهم المختلفة ولتغريبهم عن الأمم.

إنها أيديولوجيا استعمارية استيطانية عنصرية تمييزية رجعية، تلتقي مع اللاسامية في منطلقاتها، بل هي الوجه الآخر للعملة نفسها. فعندما نقول إن تابعي دين معين هم اليهود، أيًا كان وطنهم، لا ينتسبون إلى ذلك الوطن ولا يمكن أن يعيشوا كمواطنين متساوين مع بقية المواطنين من الطوائف الأخرى، فإن ذلك لقاء مباشر مع دعاة اللاسامية، وعندما يقولون إن الحل الوحيد لمشكلتهم هو أن ينفصلوا عن الأمم والمجتمعات التي هم جزء منها عبر تاريخ طويل، ثم يهاجرون ليستوطنوا أرض شعب آخر ويحلّوا محلّه بالقوة والإرهاب يأخذون من غيرهم الموقف نفسه الذي أخذه دعاة اللاسامية منهم.

ومن هنا نلاحظ مثلًا العلاقة الوثقى بين رودس وهو يبسط استعماره الاستيطاني في جنوب شرقي القارة الإفريقية، وبين هرتزل الذي راح يخطط ويصمم لاستعماره الاستيطاني على أرض فلسطين.

وعندما حصل هرتزل على شهادة حسن سلوك استعماري استيطاني من رودس، قدمها للحكومة البريطانية، ليستصدر منها قرار التأييد والدعم، مقابل أن يبني على أرض فلسطين قاعدة للاستعمار، تؤمّن مصالحه في أهم النقاط الإستراتيجية في الشرق الأوسط.

وهكذا باشرت الحركة الصهيونية متحالفة مع الاستعمار العالمي غزوتها لبلادنا. واسمحوا لي أن أوجز بعض الحقائق التالية حولها:

·          كان عدد سكان فلسطين عند بداية الغزوة عام 1881 وقبل قدوم أول موجة استيطان، حوالي نصف مليون نسمة كلهم من العرب، مسلمين ومسيحيين، ومنهم حوالي عشرون ألفًا من يهود فلسطين، يعيشون جميعًا في كنف التسامح الديني الذي اشتهرت به حضارتنا.

·          وكانت فلسطين أرضًا خضراء معمورة بشعبها العربي الذي يبني الحياة في وطنه ويُغْني ثقافته.

·          وعمدت الحركة الصهيونية إلى تهجير حوالي خمسين ألف يهودي أوروبي بين عامي 1882 و 1917 لاجئة إلى شتى أساليب الاحتيال لتغرسهم في أرضنا، ونجحت في الحصول على تصريح بلفور من بريطانيا، فجسد التصريح حقيقة التحالف الصهيوني الاستعماري، وعبّر هذا التصريح عن مدى ظلم الاستعمار للشعوب، حيث أعطت بريطانيا -وهي لا تملك- وعدًا للحركة الصهيونية -وهي لا تستحق-. وخذلت عصبة الأمم بتركيبها القديم شعبنا العربي، وتبخرت وعود ومبادئ ويلسون في الهواء، وفرضت علينا قسرًا الاستعمار البريطاني بصورة الانتداب، وتعهّد صكّ الانتداب الذي أصدرته عصبة الأمم المتحدة صراحة بالتمكين للغزوة الصهيونية من أرضنا.

·          وعلى مدى ثلاثين عامًا بعد صدور تصريح بلفور، نجحت الحركة الصهيونية مع حليفها الاستعماري في تهجير مزيد من يهود أوروبا، واغتصاب أراضي عرب فلسطين. وهكذا أصبح عدد اليهود في فلسطين عام 1947 حوالي ستمائة ألف، يملكون أقل من 6 % من أراضي فلسطين الخصبة. بينما كان تعداد عرب فلسطين حوالي مليون وربع المليون نسمة.

·          وبفعل تواطؤ الدولة المنتدبة مع الحركة الصهيونية، ودعم الولايات المتحدة لهما؛ صدر عن هذه الجمعية، وهي في بداية عهدها التوصية بتقسيم وطننا فلسطين، في 29 نوفمبر 1947، وسط تحركات مُريبة وضغوط شديدة، فقسمت ما لا يجوز لها أن تقسم، أرض الوطن الواحد. وحين رفضنا ذلك القرار فلأننا مثل أم الطفل الحقيقية التي رفضت أن يقسّم سليمان طفلها حين نازعتها عليه امرأة أخرى. ومع ذلك فقد منح قرار التقسيم المستوطنين الاستعماريين 54 % من أرض فلسطين، وكأن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إليهم، فشنوا حربًا إرهابية  ضد السكان المدنيين العرب، واحتلوا 81 % من مجموع مساحة فلسطين وشردوا مليون عربي.

·          مغتصبين بذلك 524 قرية ومدينة عربية، ودمروا منها 385 مدينة وقرية تدميرًا كاملًا، محاها من الوجود. وحيث فعلوا ذلك أقاموا مستوطناتهم ومستعمراتهم فوق الأنقاض وبين بساتيننا وحقولنا.

ومن هنا يبدأ جذر المشكلة الفلسطينية، إن هذا يعني أن أساس المشكلة ليس خلافًا دينيًا أو قوميًا بين دينين أو قوميتين، وليس نزاعًا على حدود بين دول متجاورة، إنه قضية شعب اغتُصب وطنه، وشُرّد من أرضه، لتعيش أغلبيته في المنافي والخيام.

وقد استطاع هذا الكيان الصهيوني، وبدعم من دول الاستعمار والإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أن يتحايل على هيئة الأمم لقبوله في عضويتها، ومن ثم على شطب قضية فلسطين من جدول أعمالها، وتضليل الرأي العام العالمي، بتصوير المشكلة كمشكلة لاجئين بحاجة إلى عطف المحسنين، أو إعادة توطينهم في بلاد الآخرين.

على أن هذه الدولة العنصرية التي قامت على أساس الاستعمار الاستيطاني لم تكتف بكل ذلك، حيث جعلت من نفسها قاعدة للإمبريالية، وراحت تتحول إلى ترسانة من الأسلحة لإكمال مهمتها في إخضاع الشعوب العربية والعدوان عليها؛ طمعًا في المزيد من التوسع على الأرض الفلسطينية والأراضي العربية، فإلى جانب عشرات الاعتداءات التي شنتها هذه الدولة ضد البلاد العربية، قامت بحربين توسعيتين كبيرتين: عام 1956 وعام 1967، عرّضت خلالهما السلم العالمي لخطر حقيقي.

فقد كان من نتائج العدوان الصهيوني في حزيران 1967 أن احتل العدو سيناء المصرية حتى مشارف السويس، واحتل الجولان السورية، فضلًا عن احتلاله للأرض الفلسطينية حتى نهر الأردن؛ الأمر الذي شكل وضعًا جديدًا في منطقتنا، وخلق ما يسمى بمشكلة الشرط الأوسط. ومما جعل الوضع يتفاقم أكثر، إصرار العدو على استمرار الاحتلال وتكريسه، مشكلًا رأس حربه للاستعمار العالمي ضد أمتنا العربية، وقد ضرب عرض الحائط بكل قرارات مجلس الأمن ونداءات الرأي العام العالمي للانسحاب من الأراضي التي احتلها بعد حزيران، ولم تُجْدٍ كل المساعي السلمية والدبلوماسية لردعه عن هذه السياسة التوسعية، فما كان أمام أمتنا العربية وفي مقدمتها دولتا مصر وسوريا إلا أن تبذل الجهود المضنية في الاستعداد العسكري من أجل الصمود في وجه هذه الغزوة الهمجية المسلحة بالقوة، وثانيًا من أجل تحرير تلك الأراضي واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية، وضمن هذا الإطار اندلعت الحرب الرابعة، حرب تشرين؛ لتؤكد للعدو الصهيوني عقم سياسته الاحتلالية التوسعية واعتماده على شريعة القوة العسكرية. ولكن رغم ذلك، فإن قادة الكيان الصهيوني مازالوا بعيدين عن الاتّعاظ بهذه الدروس، فهم يُعِدون العدة للحرب الخامسة، ليعودوا من جديد إلى سياسية مخاطبة العرب بلغة التفوق العسكري، سياسة العدوان والإرهاب والإخضاع للحرب.


سيدي الرئيس،


لشدما يتألم شعبنا حين يسمع تلك الدعايات التي تقول إن أراضيه كانت صحراء فعمرها المستوطنون الأجانب، وإن وطنه كان خاليًا من السكان، وإنه لم يتضرر أحد من بني البشر نتيجة قيام هذا الكيان الاستيطاني. لا يا سيدي الرئيس، يجب أن تدحض هذه الأكاذيب من على هذا المنبر العالمي، ويجب أن يعرف الجميع أن فلسطين كانت مهدًا لأقدم الحضارات والثقافات استمر شعبها العربي ينشر الخضرة والبناء والحضارة والثقافة في ربوعها، طوال آلاف السنين، ويرفع لواء التسامح الديني، ضاربًا المثل على حرية العقيدة، وحارسًا أمينًا على مقدسات جميع الأديان في ظنه.

وإنني -كأحد أبناء بيت المقدس- أحتفظ لنفسي ولشعبي بذكريات جميلة، وصور رائعة، عن مظاهر التآخي الديني التي كانت تتآلف في مدينتنا المقدسة قبل حلول النكبة بها، ولم ينقطع شعبنا عن ذلك إلا بعد تمكن الغزوة الصهيونية الهمجية من إقامة دولة إسرائيل وتشريده.

ولكنه مازال مصمّمًا على الاستمرار في أداء دوره الحضاري والإنساني على أرض فلسطين، ولا يسمح بأن تتحول هذه الأراضي إلى بؤر للعدوان على الشعوب، وإلى معسكر عنصري ضد الحضارة والثقافة والتقدم والسلام. ولهذا، فإن شعبنا لا يستطيع إلا أن يواصل تراث أجداده في الكفاح ضد الغزاة، وأن يحمل شرف المسؤولية في الدفاع عن وطنه وعن أمته العربية، وعن الثقافة والحضارة ومهد الديانات السماوية، وتكفينا نظرة سريعة لمواقف إسرائيل العنصرية، عندما دعمت منظمة الجيش السرية في الجزائر، وفي دعمها للمستعمرين في إفريقيا، سواء في الكونغو وأنغولا وموزمبيق وزمبابوي، وفي وقوفها إلى جانب حكومة فيتنام ضد الثورة الفيتنامية، فضلًا عن مواقفها المتتابعة في هذا السياق إلى جانب الاستعماريين والعنصرين في كل مكان، وعرقلتها لعمل لجنة تصفية الاستعمار، ورفضها التصويت لمصلحة استقلال بلدان إفريقيا، ووقوفها ضد مطالب بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وبلدان عديدة أخرى في مؤتمرات " المواد الأولية والتنمية" و"قانون البحار" و "السكان" و "التغذية". كل ذلك يعطي دليلًا إضافيًا على صورة العدو الذي اغتصب بلادنا، ويكشف عن شرف النضال الذي نخوضه ضده، إننا ندافع عن حلم المستقبل، وهو يدافع عن أساطير الماضي.


سيدي الرئيس،


إن لهذا العدو الذي نواجهه سجلًا حافلًا ضد اليهود أنفسهم، فهناك في داخل الكيان الصهيوني تمييز عنصري بشع ضد اليهود الشرقيين. وإذا كنا ندين بكل ما أوتينا من قوة مذابح اليهود تحت الحكم النازي، فإن القادة الصهاينة -كما يبدو- همهم الأكبر حينذاك هو استغلالها لتحقيق الهجرة إلى فلسطين.


سيدي الرئيس،

لو كان تهجيرهم إلى فلسطين بهدف العيش كمواطنين متساوين معنا بالحقوق والواجبات لكنا أفسحنا المجال لهم ضمن إمكانات وطننا، كما حدث مع عشرات الآلاف من الأرمن الشركس الذين ما زالوا بيننا أخوة مواطنين مثلنا تمامًا، أما أن يكون هدف ذلك اغتصاب أراضينا، وتشريدنا، وتحويلنا إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وإنزال المعاملة نفسها بنا؛ فهذا ما لا يمكن أن ينصحنا أحد القبول به أو الإذعان له. ولهذا، فإن ثورتنا منذ البداية لا تقوم على أسس عرقية أو دينية عنصرية، وليست موجهة للإنسان اليهودي من حيث كونه إنسانًا، وإنما هي موجهة ضد العنصرية الصهيونية وضد العدوان. وبهذا المعنى، فإن ثورتنا هي أيضًا من أجل الإنسان اليهودي، إننا نناضل من أجل أن يعيش اليهود والمسيحيون والمسلمون بمساواة في الحقوق والواجبات، وبلا تمييز عنصريّ أو ديني.

أ‌.         إننا إذن يا سيادة الرئيس، نفرق بين اليهودية وبين الصهيونية، وفي الوقت الذي نعادي الحركة الصهيونية الاستعمارية، فإننا نحترم الدين اليهودي، وإننا نحذر اليوم، وبعد قرابة قرن من بروز هذه الحركة العنصرية، من أنّ خطرها يتزايد ضد اليهود في العالم، وضد شعبنا العربي، وضد أمن العالم وسلامته، فالصهيونية لا تزال متمسكة بتهجير اليهود من أوطانهم، واصطناع  قوميه لهم يستبدلونها بقومياتهم الأصلية. إن الصهيونية تتابع نشاطها التخريبي هذا، على الرغم من ظهور فشل الحل الذي قدمته، وأن ظاهرة النزوح من التجمع الإسرائيلي المستمرة منذ قيامه والتي ستقوى مع سقوط قلاع الاستعمار الاستيطاني العنصري في العالم، لدليل على هذا الفشل.

ب‌.      إننا ندعو جميع الشعوب والحكومات لمجابهة مخططات الصهيونية الرامية إلى تهجير مزيد من يهود العالم من أوطانهم ليغتصبوا وطننا، وندعوهم في الوقت نفسه للوقوف في وجه أي اضطهاد للإنسان بسبب دينه أو جنسه أو لونه.

ت‌.      وإنني أتساءل يا سيادة الرئيس، لماذا يتحمل شعبنا ووطننا مسؤولية مشكلة الهجرة اليهودية إذا كانت لا زالت مثل هذه المشكلة في مخيّلة البعض؟ وأتساءل لماذا لا يتحمل المتحمسون لهذه المشكلة إن وجدت، المسؤلية فيفتحوا بلادهم الكبيرة الرقعة والقادرة لاستيعاب هؤلاء المهاجرين ومساعدتهم؟


سيدي الرئيس،


 إن الذين ينعتون ثورتنا بالإرهاب، إنما يفعلون ذلك لكي يضلّلوا الرأي العام العالمي عن رؤية الحقائق، من ر}ية وجهنا الذي يمثل جانب العدل والدفاع عن النفس، ووجههم الذي يمثل جانب الظلم والإرهاب.

إن الجانب الذي يقف فيه حامل السلاح هو الذي يميز بين الثائر والإرهابي، فمن يقف في جانب قضية عادلة، ومن يقاتل من أجل حرية وطنه واستقلاله ضد الغزو والاحتلال والاستعمار لا يمكن أن تنطبق عليه بأي شكل من الأشكال صفة إرهابي، وإلا اعتُبر الشعب الأمريكي حين حمل السلاح ضد الاستعمار البريطاني إرهابيًا، واعتُبرت المقاومة الأوروبية ضد النازية إرهابًا، واعتُبر نضال شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكيا اللاتينية إرهابًا. لا يا سيدي الرئيس، إن هذا هو الكفاح العادل والمشروع والذي يكرسه ميثاق هيئة الأمم والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما الذي يحمل السلاح ضد القضايا العادلة، والذي يشن الحرب لاحتلال أوطان الآخرين ونهبم واستغلالها واستعمارهم؛ فذلك هو الإرهابي،  وأعماله هي التي يجب أن تُدان،  وينسحب عليه لقب مجرم حرب؛ ذلك أن عدالة القضية هي التي تقرر عدالة السلاح.

 

 

سيدي الرئيس،

إن الإرهاب الصهيوني الذي ارتكب بحق الشعب الفلسطيني لإجلائه عن وطنه واقتلاعه من أرضه مدون لديكم في وثائق رسمية وزعت في الأمم المتحدة، لقد ذُبح الآلاف من أبناء شعبنا في قراهم ومدنهم، وأُجبر عشرات الألوف تحت نار البندقية وقصف المدافع  والطائرات أن يتركوا بيوتهم وما زرعوا في أرض أجدادهم. وكم من مرة أُجبر فيها أبناء شعبنا من نساء وأطفال وشيوخ على الخروج من دون زاد أو ماء، وأُرغموا على تسلّق الجبال، والتيه في الصحراء.

إن الكوارث التي حلت عام 1948 بأهالي المئات من القرى والمدن في السهل والجبل، في القدس ويافا واللد والرملة والجليل، لم ولن ينساها من عانى أهوالها لحظة، رغمًا عن التعتيم الإعلامي العالمي الذي نجح في إخفاء هذه الأهوال، كما أخفى أثر 385 قرية ومدينة فلسطينية دُمّرت في حينه وأُزيلت من الوجود، إن نسف 19 ألف منزل على مدى السنوات السبع الأخيرة أي ما يساوي تدمير مائتي قرية فلسطينية أخرى تدميرًا كاملًا، والأعداد الضخمة من مشوهي الإرهاب والتعذيب، ومن في السجون؛ لا يمكن أن يطمسه التعتيم الإعلامي. لقد وصل إرهابهم إلى الحقد حتى على شجرة الزيتون في بلادي التي اعتبروها علمًا شامخًا يذكرهم بسكان البلاد الأصليين، يصرخ أن الأرض فلسطينية، فراحوا يعملون على اقتلاعها أو قتلها بالإهمال والتحطيب، ماذا يمكن أن يسمى تصريح غولدا مائير، عندما عبّرت عن "قلقها من الأطفال الفلسطينيين الذين يولدون كل صباح". إنهم يرون في الطفل الفلسطيني والشجرة الفلسطينية عدوًا يجب التخلص منه.

 يا سيادة الرئيس، طيلة عشرات السنين وهم يتعقبون قيادات شعبنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والفنية بالإرهاب والتقتيل والاغتيال والتشريد. لقد سرقوا تراثنا الحضاري، وفولكلورنا الشعبي، وادّعوه لهم، ومدّوا إرهابهم إلى مقدساتنا في مدينة السلام القدس الحبيبة، وعمدوا إلى إفقادها طابعها العربي المسيحي الإسلامي، من خلال تهجير سكانها وضمّها لدولتهم، ولا حاجة لأن نسترسل في ذكر المسجد الأقصى، وسرقة ثروات كنيسة القيامة والتشويه الذي لحق بعمرانها وطابعها الحضاري، فالقدس بروعتها وبالعبق التاريخي المسيطر عليها تشهد لأجيالنا المتعاقبة التي مرت عليها تاركة في كل ركن من أركانها أثرًا خالدًا، وبصمة حنونة، ولمسة حضارية، ونبضة إنسانية.

وليس غريبًا أن تتعانق في سمائها الرسالات السماوية الثلاث، وتتهادى في ركبها وآفاقها، تنير للبشرية طريق جلجلتها وهي تحمل أشواكها وآلامها لترسم مستقبلها بكل ما فيه من آمال وأماني ومعطيات .


سيدي الرئيس،


إنا العدد القليل من العرب الفلسطينيين الذيم لم يستطع العدو تهجيرهم من أرضهم عام 1948 هم الآن لاجئون على أرضهم، وقد عوملوا في القانون الإسرائيلي كمواطنين من الدرجة الثانية، بل والثالثة، باعتبار أن اليهود الشرقيين هم مواطنو الدرجة الثانية، ومورست ضدهم كل أشكال التمييز العنصري والإرهاب، وصودرت أراضيهم وممتلكاتهم، وتعرضوا لمذابح  دامية  كما حدث في قرية كفر قاسم، وهجروا من قراهم وحرموا من العودة لها، كما حدث لأهالي قريتي كفر برعم وأقرت، كما أهلنا عاشوا هناك ثمانية عشر عامًا تحت الحكم العرفي، لا يحق لهم الانتقال من مكان إلى مكان مجاور دون إذن مسبق من الحاكم العسكري. تصوّر، يا سيادة الرئيس، في الوقت الذي يسن فيه المشرع الإسرائيلي قانونًا حقًا تلقائيًا بالمواطنة لأي يهودي يهاجر إلى أرضنا فور أن يطأها، يسن قانونًا آخر يعتبر الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين ولم يكونوا في قراهم أو مدنهم ساعة احتلالها محرومين من المواطنة.


سيدي الرئيس،


إن سجل حكام إسرائيل الحافل بجرائم الإرهاب يمتد ليشمل عددًا من أبناء أمتنا العربية الذين بقوا تحت الاحتلال في سيناء أو الجولان، كما أن ذكرى جريمة قصف مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل في مصر العربي ما زالت ماثلة للإذهان، وأما تدمير مدينة القنيطرة السورية فما زال شاهدًا لكل من يريد أن يرى ما يفعله الإرهاب. وإذا فتح سجل الإرهاب الصهيوني على جنوبي لبنان وهو الإرهاب الذي ما زال مستمرًّا، فسوف تقشعر الأبدان من هول ما يرتكب من أعمال القرصنة والقصف والعدوان، بما في ذلك تهجير المدنيين وتدمير بيوتهم وخطفهم وحرق مزارعهم، إلى جانب الاعتداءات المستمرة على سيادة الدولة اللبنانية، والإعداد لسرقة مياه نهر الليطاني، ولنذكر في هذا المجال بالمقررات العديدة التي صدرت عن هذه المنظمة، والتي تدين إسرائيل بارتكاب الاعتداءات ضد الدولة العربية وبالاعتداء على حقوق الإنسان، وفيما يتعلق بضم القدس وتغيير وضعها السابق للاحتلال وإدانتها لمخالفات متعددة لبنود اتفاقيات جنيف في حالة الحرب.


سيدي الرئيس،
إن التأمل بكل هذه الأعمال لا يمكن أن يطلق عليه من وصف غير وصف الإرهاب الهمجي، ومع ذلك يتجزأ أولئك الإرهابيون الغزاة العنصرون على تسمية نضالات شعبنا العادلة بالأعمال الإرهابية.

هل يوجد ثمة تجرؤ على الباطل والتزييف أشد من هذا؟! وإننا نقول آن لأولئك الذين اغتصبوا أرضنا، وارتكبوا من جرائم الإرهاب والتمييز العنصري أكثر مما فعل ويفعل العنصريون في جنوبي إفريقيا، أن يتذكروا قرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة الذي أعلن طرد جنوبي إفريقيا من عضويتها؛ لأن ذلك هو المصير المحتوم لكل الدول العنصرية التي تطبق شريعة الغاب، وتغتصب وطن الآخرين وتضطهدهم.


سيدي الرئيس،


لقد قاوم شعبنا الفلسطيني خلال ثلاثين عامًا تحت الاحتلال البريطاني والغزو الصهيوني كل محاولات انتزاع أرضه، وناضل في ثورات ست، ومن خلال عشرات الانتفاضات الشعبية ومن أجل إحباط المؤامرة ليبقى على أرضه وفوق تراب وطنه، قدم في سبيل ذلك ولغاية 1948 ثلاثين ألف شهيد  (أي ما يوازي 6 ملايين أمريكي بالنسبة لعدد سكان اليوم).

وعندما اقتلعت غالبيته من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948 ظل يقاوم في ظروف صعبة محاولات إفنائه. وحاول شعبنا بكل الطرق استمرار نضاله السياسي من أجل حقوقه، دون جدوى.ناضل للحفاظ على وجوده، فتعلم أبناؤه في النزوح والشتات، وكدحوا تحت أصعب الظروف ليستطيعوا الاستمرار، وأصبح لدى الشعب الفلسطيني آلاف الأطباء والمهندسين والأساتذة والعلماء، توجهوا بعملهم وإمكانياتهم للأقطار العربية المحيطة بوطنهم المغتصب،  فساهموا في البناء والتعمير والتطوير، وحصلوا على دخل استخدموه لمساعدة أقربائهم الصغار والعجائز الذين استحال عليهم مغادرة مخيمات النزوح، علّم الأخ أخاه وأخته، وحافظ على والديه، وربى أولاده، ولكنه ظل يحلم في قلب ذاته بالعودة إلى فلسطين، ظل فلسطينيًا متمسكًا بوطنه، لا يهتز ولاؤه لها، ولا تهن عزيمته، ولا يفتر حماسه، لم يغره شيء للتخلي عن فلسطينيته ووطنه فلسطين،

لا ولم ينسه الزمن إياها كما توقع المتوقعون.

وعندما خابت آمال شعبنا بالأسرة الدولية التي نسيته وتغافلت عن حقوقه، وثبت لشعبنا عجز النضال السياسي وحده عن استعادة شبر أرض من وطنه، لجأ شعبنا إلى الثورة الفلسطينية، وأعطاها كل إمكانياته المادية والبشرية، وخيرة شبابه، وواجه شعبنا ببسالة إرهابًا إسرائيليًا لا يتخيله بشر ليثنيه عن طريق النضال.

لقد قدم شعبنا في السنوات العشر الأخيرة من نضاله آلاف الشهداء، وأضعافهم من الجرحى والمشوهين والأسرى والمعتقلين من أجل أن يفنى أو يذوب، ومن أجل انتزاع حقه في تقرير مصيره على وطنه وفي عودته إلى ترابه.

وتعيش جماهير شعبنا الآن تحت الاحتلال الصهيوني، تقاوم بكل الكبرياء المتأصلة فيها، بكل الشموخ الثوري الملازم لها، سواء من زُجّ منها في السجون والمعتقلات، أو من يعيش داخل السجن الكبير في قفص الاحتلال، يقاومون من أجل البقاء والوجود، يناصلون من أجل أن تبقى الأرض عربية، ويكافحون الطغيان والظلم والإرهاب بشتى صوره المأساوية الخطيرة.

ومن خلال ثورة شعبنا المسلحة، تبلورت قيادته السياسية، وترسخت مؤسساته الوطنية، وبُنيت حركة التحرير الوطنية التي تضم كل فصائله وتنظيماته وقدراته والتي جسدتها منظمة التحرير الفلسطينية.

ومن خلال حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، نضج نضال شعبنا وتعددت أساليبه، فشمل النضال السياسي والاجتماعي بالإضافة للنضال المسلح، واندفعت منظمتنا تساهم في بناء الإنسان الفلسطيني المؤهل لبناء المستقبل الفلسطيني، وليس لتعبئته لمواجهة تحديات الحاضر.

وتعتز منظمة التحرير الفلسطينية بأنها وهي تخوض المعارك المسلحة وتواجه قساوة الإرهاب الصهيوني، قامت بمآثر عديدة حضارية وثقافية؛ فشكلت مؤسسات البحث العلمي، والتطوير الزراعي والرعاية الصحية، وإحياء التراث الحضاري لشعبنا، وتطوير الفولكلور الشعبي، وخرجت من بين صفوفها عددًا من الشعراء والفنانين والكتاب الذين يسهمون في تطوير الثقافة العربية، وربما امتد ذلك إلى الثقافة العالمية، وكان المحتوى لكل ذلك يحمل طابعًا إنسانيًا عميقًا أثار إعجاب كل الأصدقاء الذين اطّلعوا عليه، وكنا بذلك النقيض لعدونا الذي قام على هدم الحضارة والثقافة، بترويج الأفكار العنصرية والاستعمارية، وكل ما هو معادٍ للشعوب والتقدم والعدل والديمقراطية والسلام. 

سيدي الرئيس،


لقد اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها من طليعتها في التضحية، ومن قيادتها للنضال بكافة أشكاله، واكتسبتها من الجماهير الفلسطينية التي أولتها قيادة العمل ،واستجابت لتوجيهها، واكتسبتها من تمثيل كل فصيل ونقابة وتجمع وكفاءة فلسطينية في مجلسها الوطني ومؤسساتها الجماهيرية، وقد تدعمت هذه الشرعية بمؤازرة الأمة العربية كلها لها. وكما تكرس هذا الدعم في مؤتمر القمة العربي الأخير بتأكيد حق منظمة التحرير الفلسطينية في إقامة السلطة الوطنية المستقلة على كل الأراضي الفلسطينية التي يتم تحريرها بصفتها الممثلة  الشرعية الوحيدة للشعب الفلسطيني.

كما أن شرعيتها تعمقت من خلال دعم الأخوة في حركات التحرر  ودول العالم  الصديقة المناصرة التي وقفت إلى جانب المنظمة، تدعمها وتشد أزرها في نضالها من أجل حقوق الشعب الفلسطيني.

وهنا لا بد أن أن أعلن بكل اعتزاز شكر ثوارنا وشعبنا للمواقف المشرّفة التي وقفتها مع نضال شعبنا دول عدم الانحياز، والدول الاشتراكية، والدول الإسلامية، الإفريقي[A1] ، والدول الصديقة في أوروبا، وكذلك الأصدقاء في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.


 سيدي الرئيس،


 إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي بهذه الصفة تنقل إليكم تلك الرغبات والأماني، وتحمّلكم مسؤولية تاريخية كبيرة تجاه قضيتنا العادلة.


 سيادة الرئيس،


 لقد تعرض شعبنا لويلات الحرب والدمار والتشريد سنين طويلة، ودفع شعبنا من دماء أبنائه وأرواحهم ما لا يعوّض بثمن، وعانى من الاحتلال والتشريد والنزوح والإرهاب ما لم يعان منه شعب آخر. ولكن ذلك كله لا يجعل شعبنا حاقدًا يحلم بالانتقام، كما أنه لا يجعلنا -يا سيادة الرئيس- نقع في سقطة عدونا العنصرية، أو نفق الرؤية الحقيقية[A2]  في تحديد أعدائنا وأصدقائنا. إننا ندين كل الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود، وكل أنواع التمييز الصريح والمقنع الذي عانى منه معتنقو اليهودية.


سيدي الرئيس،


 إنني ثائر من أجل الحرية، وأعرف أن كثيرين من الجالسين في هذه القاعة كانوا في مثل المواقع النضالية التي أقف فيها الآن، واستطاعوا من خلال نضالهم أن يحولوا أحلامهم إلى حقائق، إنهم شركائي في الحلم إذن، من هنا أسألهم أن نمضي في تحويل الحلم المشترك بمستقبل السلام في هذه الأرض الفلسطينية المقدسة إلى حقائق ساطعة. لقد وقف المناضل اليهودي أهود أديف في المحكمة العسكرية الإسرائيلية قائلًا: أنا لست مخربًا، أنا من المؤمنين بإقامة الدول الديمقراطية على هذه الأرض، إنه الآن في غياهب سجون الزمرة العسكرية الصهيونية مع زملاء له.


ويمثل الآن، أمام هذه المحاكم ذاتها، أمير شجاع من أمراء الكنيسة المسيحية هو المطران كبوجي، إنه يرفع أصابعه بعلامة النصر - شعار ثوارنا – ويقول: " إنني أعمل من أجل السلام في فلسطين، ليعيش الجميع على أرض السلام بسلام". وسيلقى هذا الأمير الراهب المصير ذاته في غياهب السجون.

فلماذا لا أحلم، يا سيادة الرئيس، وآمل، والثورة هي صناعة تحقيق الأحلام والآمال، فلنعمل معًا على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي، لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه في ظل دولة واحدة ديمقراطية، يعيش فيها المسيحي والمسلم في كنف المساواة والعدل والإخاء.

ألا يستحق هذا الهدف الإنساني النبيل أن أناضل من أجل تحقيقه مع كل الشرفاء في العالم؟ ولعل أروع ما في هذا الهدف العظيم هو أنه من أجل فلسطين، أرض القداسة والسلام، أرض الاستشهاد والبطولة.

لقد ناضل اليهود يا سيادة الرئيس في أوروبا وهنا في أمريكا من أجل أوطان لا طائفية، تنفصل فيها الدول عن الكنيسة، وقاتلوا ضد التمييز على أساس الدين، فكيف يمكن لهم أن يرفضوا هذا النموذج الإنساني المشرف على الأرض المقدسة، أرض السلام والمساواة؟! وكيف يمكن لهم أن يستمروا في دعم أكثر دول العالم انغلاقًا وتمييزًا وتعصبًا؟!

إنني أعلن أمامكم هنا، كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية وقائد للثورة الفلسطينية، أننا عندما نتحدث عن آمالنا المشتركة من أجل فلسطين الغد، فنحن نشمل في تطلعاتنا كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين ويقبلون العيش معنا في سلام ودون تمييز على أرض فلسطين.


إنني بصفتي رئيسًا لمنظمة التحرير وقائدًا لقوات الثورة الفلسطينية، أدعو اليهود فردًا فردًا ليعيدوا النظر في طريق الهاوية الذي تقودهم إليه الصهيونية والقيادات الإسرائيلية، وهي التي لم تقدم لهم غير النزيف الدموي الدائم والاستمرار في خوض الحروب واستخدامهم كوقود دائم لها.

إننا ندعوكم للخروج إلى مجال الاختيار الرحب، بعيدًا عن محاولات قيادتكم، لغرس عقدية المساواة وجعلها قدرًا لكم.

إننا نقدم لكم أكرم دعوة، أن نعيش معًا في إطار السلام العادل في فلسطيننا الديمقراطية، إنني كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية وكقائد للثورة الفلسطينية، أعلن هنا أننا لا نريد إراقة  نقطة دم  يهودية أو عربية، ولا نستعذب استمرار القتال دقيقة واحدة، إذا حل السلام العادل المبني على حقوق شعبنا وتطلعاته وأمانيه. إنني كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية وكقائد للثورة الفلسطينية، أتوجه إليكم أن تقفوا مع نضال شعبنا من أجل تطبيق حقه في تقرير مصيره، هذا الحق الذي كرسه ميثاق منظمتكم وأقرته جمعيتكم الموقرة في مناسبات عديدة، وإنني أتوجه إليكم أيضًا أن تمكّنوا شعبنا من العودة من منفاه الإجباري الذي دُفع إليه تحت حراب البنادق، وبالعسف والظم، ليعيش في ظنه ودياره وتحت ظلال أشجاره حرًا سيدًا متمتعًا بكافة حقوقه القومية، ليشارك في ركب الحضارة البشرية وفي مجالات الإبداع الإنساني، بكل ما فيه من إمكانات وطاقات، وليحمي قدسه الحبيبة كما فعل دائمًا عبر التاريخ، ويجعلها قبلة حرة لجميع الأديان بعيدًا عن الإرهاب  والقهر. كما أتوجه إليكم بأن تمكنوا شعبنا من إقامة سلطته الوطنية المستقلة وتأسيس كيانه الوطني على أرضه. لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.

 سيادة الرئيس،

 الحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين.


 [A1]؟؟؟؟؟

 [A2]الرؤية الضيقة

أو: الرؤية الضبابية

أو: الرؤية السوداوية