الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

خطاب للسيد ياسر عرفات أمام المؤتمر العالمي للتضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني.

15 كانون الأول 2024

خطاب للسيد ياسر عرفات أمام المؤتمر العالمي للتضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني.

 

بيروت، 10/9/1981

الأخ الرفيق رئيس المؤتمر،

الإخوة والرفاق والأصدقاء أعضاء المؤتمر،

يسعدني أن أتحدث إليكم في هذا اللقاء التضامني الكبير، باسمي شخصيًّا، وباسم إخواني أعضاء اللجنـة التنفيذية، وباسم المناضلين الأبطال في القوات المشتركة، اللبنانية الفلسطينية، واسمحوا لي أيها الإخوة والأصدقاء، أن أشكركم من صميم قلبي، على تلبيتكم الدعوة للمشاركة في هذا المؤتمر الهام الذي يجسد أحد مظاهر التفاعل الإيجابي بين أحرار وشرفاء العالم، وبين نضالنا اللبناني العربي الفلسطيني المشترك.

إن مؤتمرنا هذا يلتئم بعد مرور أكثر من شهر على الحرب السادسة، التي خططت لها الدوائر الصهيونية، بدعم من الإدارة الأمريكية الجديدةن ونفذتها الإداة العسكرية الإسرائيلية، تحت شعار عنصري فاشي معلن؛ وهو إبادة الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية وحلفائهما من شعب لبنان وقواه الوطنية الشجاعة، وذلك في إطار هجمة أمريكية شاملة على منطقتنا، هدفها الرئيسي إخضاع المنطقة وشعوبها، وفرض أمر واقع عليها، يتناقض كليًّا مع مصالح هذه الشعوب وطموحاتها واستقلالها الوطني. واسمحوا لي أيها الإخوة والأصدقاء، أن أعرض لكم بإيجاز شدید، خلفيات هذه الحرب ومقدماتها؛ ليتسنى لنا وضعها في مكانها الطبيعي، فنستكشف من خلالها حقائق عديدة بحاضر هذه المنطقة ومستقبلها.

تذكرون أيها الإخوة، أنه منذ تسلم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مهامه الرسمية في مطلع هذا العام، كرئيس للولايات المتحدة، [A1] موجهة ضد منظمة التحرير الفلسطينية، واصفًا إياها بأحد أخطر مرتكزات الإرهاب في هذا العالم، وكان واضحًا أن الرئيس الأمريكي بذلك لم يقم بمجرد تسديد حسابات الأصوات الانتخابية، وإنما أضاء إشارة خضراء لأدواته العسكرية الإسرائيلية التي يصفونها في أمريكا بالكنز الإستراتيجي؛ لتمضي في حربها الشرسة ضد الشعب الفلسطيني، وضد قيادة منظمة التحرير، وضد حلفائها. تلك الحرب التي تعلمون جميعًا أنها لم تتوقف منذ انطلاق ثورتنا في العام ٦٥، ولقد بادرت المؤسسة العسكرية الصهيونية العنصرية في حينه، إلى استئناف هجماتها العدوانية على الجنوب اللبناني، مستخدمة في ذلك كل ما في ترسانتها الأمريكية من اسلحة وعتاد، برية وبحرية وجوية، معلنة أن أرض جنوب لبنان هي أرض محروقة، وكانت النتيجة زرع الدمار والتخريب في كل قراه ومدنه والمخيمات القائمة على أرضه، وسقوط الآلاف شهداء وجرحى، ونزوح مئات الألوف عن منازلهم ومخيماتهم وقراهم، وقد تم ذلك كله تحت سمع وبصر العالم بأسره، وبدعم سافر ومكشوف من الإدارة الأمريكية التي لم تتوقف عند مد إسرائيل بكل الأسلحة الحديثة لتصبها حمما وموتا ودمارا على رؤوس اللبنانيين والفلسطينيين وانما تجاوزت ذلك إلى تبني هذه الاعتداءات وتبريرها، ودعمها سياسيًّا ودعائيًّا بشكل كامل، ويحضرني هنا تصریح شهير وبالغ الأهمية للمستر رتشارد ألن مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي حيث قال: «إن من حق إسرائيل التمتع بصلاحية ومشروعية الملاحقة العسكرية الساخنة للفلسطينيين» ومغزى هذا التصريح واضح تماما؛ وهو مباركة العدوان والتمادي فيه. واصلت الطغمة الإرهابية الصهيونية، بقيادة مناحم بيغن وطغمته العسكرية التي لا تخفى عنصريتها وإرهابها على أحد، حربها العنصرية ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني معلنة عبر فصول هذه الحرب أنها تقوم بعملية إنهاك. ولقد استمرت حرب الإنهاك والاستنزاف هذه -كما أسموها- طيلة أحد عشر شهرًا. وكان قرارنا الوحيد والمشروع في القيادة اللبنانية الفلسطينية المشتركة، أن نتصدى لموجات العدوان، وأن نصمد في مواقعنا، دفاعًا عن جماهيرنا اللبنانية الفلسطينية، ودفاعًا عن قلعة الصمود الأولى في هذه المنطقة العربية، ودفاعًا عن حقنا في النضال من أجل حماية وحدة لبنان وعروبته وسيادته، وحق شعبنا الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني. وقبل أن ينفذ القادة الصهاينة تهديدهم ووعيدهم بالعملية العسكرية الشاملة التـي حضروا لها طيلة أحد عشر شهرًا، شهدت منطقتنا العربية أحداثًا بارزة ينبغي التوقف عندها؛ لما تحمله من مغزى سياسي وإستراتيجي يلتقي مع المغزى الذي حملته الحرب السادسة.

الحدث الأول هو أزمة الصواريخ السورية في البقاع، تلك الأزمة، التي نفخت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في نارها وتعامت بشكل متعمد، عن الدوافع الأساسية لإدخال الصواريخ، وحق سورية باسم أمتنا العربية إدخال هذه الصواريخ، لمواجهة استمرار العدوان الإسرائيلي ضد لبنان واتساعه ليشمل قوات الردع العربية المتواجدة على أرض لبنان بإرادة لبنانية وعربية، ولحماية هذه القوات العربية السورية.

الحدث الثاني: وهو ضرب المفاعل النووي العراقي في بغداد. فهو [ ضرب المفاعل ] من جهة ترجمة واضحة، لبدعة الأمن الإسرائيلي، التي تغطي الطغمة العسكرية الإسرائيلية كل أعمالها العدوانية بها، والتي أباحت لنفسها انطلاقا منها، ضرب أهداف ومنشآت في العمق العربي، بل فرض الوصاية على أمتنا العربية ومنعها من حقها في العلم الحديث ودخول عصر الذرة، وما يعنيه ذلك من تهديد مطلق لأمن وسيادة ومستقبل أمتنا العربية. وهذا ما أوضحه الإرهابي بيغن في مؤتمره الصحفي الذي عقده إثر العدوان على المفاعل النووي العراقي حين قال: إن إسرائيل تملك قرار ضرب أي هدف عربي في أي مكان، إذا ما شعرت بحاجتها لذلك، وفق مقتضيات منها.

بل إنني أذكركم أيها الإخوة بما قاله أحد مستشاري هذا الإرهابي بيغن، وهو المدعو طشلر الذي قال: يدنا الآن طويلة، وباستطاعتها الوصول إلى منابع النفط في المنطقة للسيطرة عليها وتحديد أسعاره. إن العدوان على المفاعل النووي العراقي له مدلول أكثر عمقًا من الناحية الإستراتيجية إذ يكشف أن هدف إسرائيل وأمريكا هو إعاقة أي تطور حضاري في هذه المنطقة؛ لتظل أسيرة التخلف، ودائمة الخضوع للعجلة الإمبريالية الصهيونية، بما تفرزه من مشاريع ومخططات ترسم مصير هذه المنطقة بعيدًا عن إرادة شعوبها وتطلعاتهم المشروعة، ثم أتت بعد ذلك عملية التحدي الثالثة في خليج سرت لتعيد صورة القرصان الجديد في القرن العشرين ضد الجماهيرية الليبية، وما ترمي إليه هذه العملية وأبعادها وأخطارها، وتهديداتها ليس لليبيا فحسب وإنما قفاز رُمي في وجه أمتنا العربية. ومن خلال وقفة تأمل أمام هذه الأحداث البارزة التي شهدتها المنطقة قبل وبعد عملية التحضير الأمريكي الإسرائيلي للضربة العسكرية الشاملة ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني، وضد الثورة الفلسطينية، وضد القوى الوطنية اللبنانية؛ نستكشف أيها الإخوة أبعاد المخطط الشامل الذي يستهدف منطقتنا بأسرها والذي بلغ ذروته الدموية والإرهابية عبر الحرب السادسة، استمر فصلها الأخير خمسة عشر يومًا، وكان الرهان الأمريكي والإسرائيلي يتركز فيه على سحق التحالف الفلسطيني الوطني اللبناني؛ لتستدير الآلة العسكرية الإسرائيلية بعد ذلك، فتضرب باقي حلقات الصمود والمواجهة في المنطقة العربية.

لقد كانت الخمسة عشر يومًا الأخيرة في الحرب السادسة حربًا شاملة بكل ما في هذه الكلمة من معان، تخطيطًا وتنفيذًا،

ولا بد لي أن أعترف أنها كانت خطة عسكرية حية ومتكاملة، من وجهة تقطيع الأوصال، ثم سحق البنية التحتية للقوات المشتركة. وبدأت بقصف شامل للجسور والطرق وعشرات القرى والمدن اللبنانية ومراكز تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، وقد التزمت القيادة المشتركة جانب الدفاع الموضعي، دون أن تبادر في الأيام القليلة الأولى إلى الرد على مصادر النيران الصهيونية المتمركزة في عمق شريط المستوطنات الشمالية، وكان ذلك استجابة لنداءات دولية عديدة بادر بها الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور كورت فالدهایم، ورئيس مجلس الأمن الدولي. ومع أننا -وبحكم درايتنا بالعقلية الإسرائيلية واستهتارها التقليدي بالنداءات الدولية- لم نكن نتوقع أدنى قدر من الاستجابة الإسرائيلية لنداءات الأمم المتحدة، إلا أننا التزمنا من جانبنا، وأبلغنا الأمم المتحدة هذا الالتزام، مذكرين أن للصبر حدودًا، وأننا لا نستطيع الاستمرار في السكوت، وجماهيرنا اللبنانية الفلسطينية تتلقى الضربات الإسرائيلية المكثفة الشاملة، خاصة وأننا نتحمل مسؤولية مباشرة إزاء هذه الجماهير اللبنانية والفلسطينية البطلة الصامدة التي كانت تفقد كل يوم عشرات الشهداء ومئات المصابين، فضلا عن فقدانها المأوى والمزارع والمرافق العامة والحيوية التي تعطلت بالكامل، من جراء العدوان الإسرائيلي الشامل على الجنوب.

وقد كان بديهيًّا ومشروعًا في نفس الوقت، إزاء الإمعان الإسرائيلي في العدوان والتدمير، وأمام التغطية والصمت الأمريكي وحلفائهم، وإزاء الرفض الإسرائيلي المطلق لنداءات الأمم المتحدة، أن تبادر القوات المشتركة بالرد العنيف على مصادر النيران الإسرائيلية المتمركزة في شريط المستوطنات الشمالية، لردع المعتدين الصهاينة عن المضي في عدوانهم، ولإقناعهم أن الدم الفلسطيني اللبناني لن يظل مستباحًا، وأنه يتعين على الطغمة العسكرية الإسرائيلية أن يفهموا أن أرواح جماهيرنا ودماءهم ليست رخيصة، إلا  أن المؤامرة والخطة كانت متكاملة، ولا بدّ -طبقا للأوامر الصادرة من السيد الأمريكي- من تنفيذها، مهما كان الثمن؛ فكانت هذه الضربة المجنونة الفاشية البربرية ضد مدينة بيروت، حين قامت الطائرات الأمريكية المتطورة (F 15 و F 16) بالأجهزة الأمريكية والتكنولوجيا الأمريكية المتطورة بقصف بيروت مركزة على حي الفاكهاني المكتظ بالمدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، فدمروا خلال ثلاث إغارات متتالية، بنايات سكنية كاملة على من فيها، وأُلحقت أضرار فادحة في عشرات من البنايات، وبلغ عدد الضحايا أكثر من ألف شهيد وجريح، وهنا لا بد أن اذكر أن بيروت هي ثاني عاصمة عربية تقوم الطائرات الإسرائيلية الأمريكية الصنع بقصفها بعد بغداد، في مدة تقارب شهرًا واحدًا.

وبمؤازرة قصف بيروت، تحولت أرض الجنوب إلى قطعة من الجحيم، حيث توالت موجات القصف الجوي والبري والبحري بلا انقطاع، وفي غمار هذه الموجات جرت خمس محاولات إنزال رئيسية على محاور القتال، كان الهدف الواضح منها تثبيت رؤوس جسور للاحتلال، ومن ثم انطلاق في عملية تمشيط واسعة النطاق لما يسمونه بالمثلث الحديدي الممتد بين صيدا وصور وحاصبيا. لقد كانت -أيها الإخوة والأصدقاء- حربًا شاملة استخدم بها العدو كل أسلحته، كما اعترف قائد البحرية الإسرائيلية وقائد المدفعية الإسرائيلية. وحسب بياناتهم فقد اشترك كذلك -على مدى الخمسة عشر يومًا الأخيرة- أكثر من ستين بالمئة من سلاح الطيران الإسرائيلي. ولكن ماذا كانت نتيجة هذه الحرب؟ والعبرة دائما بالنتائج، لقد جاء حساب السرايا مخالفًا لحساب القرايا، لقد كانت المعركة في جوهرها عملية صراع بين الإنسان صاحب الحق المشروع في الدفاع عن النفس والقضية العادلة والجماهير، وبين الآلة العسكرية العمياء التي تديرها طغمة إرهابية عنصرية مستهترة، امتلأ رأسها بأوهام الغطرسة والقوة والتصميم على مواصلة جرائم الإبادة الجماعية والدموية ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني. وعبر عملية الصراع هذه، والتي تفتقد فعلًا عامل التكافؤ العسكري والفني، صنع الإنسان اللبناني والفلسطيني أسطورة رائعة في صموده وتحديه وانتصاره. حيث انتصر الدم في وجه السيف، وصمد الإنسان في وجه الحديد وآلة الدمار الأمريكية الإسرائيلية، وانتصرت إرادة الحق والعدل على قرار الإبادة العنصرية الفاشية، وارتدت سهام العدوان والتآمر إلى نحور مطلقيها، وانقلبت الخطط الإسرائيلية رأسًا على عقب، وتكرست على أرض الصراع حقيقة بالغة الأهمية والدلالة، وهي أن جبهة القوات المشتركة في الجنوب، التي أقاموا حساباتهم على أنها الحلقة الضعيفة أو المكشوفة وليس لها من خطوط حمراء أو خضراء إلا دمها الأحمر الذي يشكل خطها الأحمر؛ هي جبهة قوية وقادرة،تتسلح بإرادة الصمود وقوة الحق، وتستند إلى عمق شعبي فلسطيني لبناني عربي، ويحيطها سياج من الأصدقاء الأوفياء من جميع أحرار العالم، يحميها وتحميه، يدافع عنها وبها في وجه أعتى الهجمات العنصرية وأشرسها، وأثبتت أيضا أنها تستطيع نقل المعاناة إلى قلب بؤرة العدوان بعد أن كانت المعاناة من نصيب شعبنا اللبناني والفلسطيني وحده، وكما تعلمون أيها الإخوة والرفاق، فقد استجبنا لقرار وقف إطلاق النار ووقف القصف من الجبهة اللبنانية، من موقع القوة والاقتدار، والتزمنا به في إطار التزامنا بمسؤولياتنا الدولية التي نحرص دائما على ألا نخل بها. لقد استجبنا لقرار وقف إطلاق النار من الحدود الجنوبية اللبنانية، تلبية لنداء رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، شريطة التزام الطرف الآخر. لقد تمخضت اتفاقات كامب ديفيد عن ولادة مشروع هزيل، يدّعي أصحابه أنه يشكل حلًّا جذريًّا لقضية الشعب الفلسطيني، وهو مشروع الإدارة الذاتية الذي يشكل مؤامرة خطيرة ضد شعبنا وأهدافنا الوطنية القوميــة الثابتة، وتكرس الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا ووطننا. إن هذه المؤامرة يرفضها شعبنا الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، ونحن نقاومها وسنظل نقاومها، وهذه الانتفاضات الرائعة لشعبنا داخل الأرض المحتلة تؤكد هذا الموقف الصامد الثابت في وجه الاحتلال الصهيوني، وتمسكه بحقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف والتزييف، حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولن يكون هنالك استقرار أو سلام أو حل أو أمن بالقفز على حقوق شعبنا الوطنية الثابتة؛ ذلك أن الحرب تندلع من فلسطين، والسلام لا يمكن أن يتحقق إلا عبر فلسطين، وهذه أبرز وأهم الحقائق في هذه المنطقة. وعلى الجميع أن يعي هذه الحقائق وهذه المعطيات الجديدة.

المراجع:

الوثائق الفلسطينية العربيه للعام 1981، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ص 394،395،396، 397.

فلسطين الثورة، بيروت، العدد (۲۹، 14/9/1981، ص ٦ - ١٣ ).

 

 


 [A1]الكلام مبتور

؟؟؟