الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

خطاب ياسر عرفات في الاجتماع الثامن والخمسين للجنة حقوق الإنسان جنيف

15 كانون الأول 2024

خطاب ياسر عرفات في الاجتماع الثامن والخمسين للجنة حقوق الإنسان جنيف

السيد الرئيس، 

أود أولًا أن أعرب عن تقديري العميق لكم، أيها السيد الرئيس، وللمفوض السامي ماري روبنسون، المدافعة العالمية الصلبة عن حقوق الإنسان التي وضعت بالتزامها واستقامتها المعايير العالمية لهذا المنصب. لقد وصلت صراحتها وتمسكها بالحقوق واستقلالية روحها والتزامها الثابت إلى أكثر زوايا الكرة الأرضية سوادًا بسبب تلك الموهبة النادرة التي تتمتع بها، وهي الوعد بالمساعدة وبالأمل. إننا نأسف جميعًا لقرارها بأن لا تسعى لتجديد ولايتها، ولكننا على ثقة، أنها، مهما كان موقعها، سوف تستمر بإحداث التغيير. واسمحوا لي أن أعرب عن تقديري لأعضاء اللجنة المحترمين، هذه الجمعية التي تمثل في مجموعها ضمير العالم والتي تشكل حارسًا لكل من أُسكت صوته أو عُذِّب، لكل المجهولين، لكل مضطهد، ولكل من استُثنيَّ وتم تهميشه. وبهذا، فإنه يشرفني أن أغتنم هذه المناسبة لمشاركتكم، وللدخول معكم في نقاش مباشر حول معاناة الشعب الفلسطيني المعذب، والذي يرنو إلى الحرية والكرامة والاستقلال والسلام في أرضه وفي كل المنطقة بأسرها.

واسمحوا لي أن أعرب لكم عن تقديرنا لبيان المفوض العام المؤرخ في 13 شباط (فبراير)، حول وضع حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، ولتقرير السيد جون دوغارد، المقرر الخاص للأمم المتحدة والتي تُشكل توصياته خارطة مسار يمكن الاعتماد عليها للقيام بعمل ملموس من قبل لجنتكم الموقرة، ولتعليقات السكرتير العام للأمم المتحدة التي تتميز بقوتها الأخلاقية والشجاعة في الإقناع. ونود كذلك أن نعرب عن تقديرنا للعمل القَيَّم الذي يقوم به مكتب المفوض السامي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة برنامج حكم القانون، ونود أن نبين لكم الأهمية الملحة لتوسيع ولاية ونشاطات هذا المكتب، ونحن على ثقة أن محور واتجاه هذه الجهود المشتركة سوف تثمر في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، وفي وقف تعرضه للذبح المستمر.

أخاطبكم أيها السيد الرئيس اليوم، وقلبي مثقل، أحمل معي آلام شعب في الأسر، شعب محروم من معظم الحقوق والحريات الأساسية، ومحروم من حماية القانون الدولي، كأفراد وجماعة.

إن الشعب الفلسطيني يعاني من نير آخِر احتلال عسكري متبقٍّ في التاريخ، يتعرض للحصار والقصف والتدمير والاغتيال والإرهاب بشتى الوسائل، إن أرضنا وبيوتنا ومحاصيلنا وأشجارنا وبنانا التحتية واقتصادنا، وكل نمط من أنماط حياتنا أصبح هدفًا للهجمات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة. إن العنف الأهوج، غير المكبوح، الذي أُطلق بشكل متعمد على شعبٍ واقعٍ في الأسر ومحاصر، يفوق كل أشكال إجراءات العقاب الجماعي، ويدخل في نطاق إيقاع الألم والأذى المتعمد، كتعبير وحشي عن سياسة قاسية وغير أخلاقية، كأداة قمع نشطة.

من حيث الجوهر، أيتها السيدات والسادة، فقد تم الاعتداء علينا بشكل منتظم في صلب وجودنا، في حيواتنا وفي كرامتنا كبشر، في بيوتنا كمأوى لنا، وفي معيشتنا كأساس لبقائنا، في الخدمات الصحية والتربوية كحقوق أساسية، في حرية الحركة كمتطلب أساسي للحياة، وفي هويتنا الوطنية كتعبير عن حقنا في تقرير المصير. لقد تم غزو فضائنا الإنساني وتم نكرانه، وضغطه بحجم رصاصة شديدة سريعة الانطلاق، أو على شكل قذيفة دبابة أو طائرة أباتشي مقاتله، أو مسار قذيفة طائرة إف 16 التي تجد طريقها إلى غرف النوم والمدارس والشوارع والحدائق، وإلى أي بيئة أخرى يبحث فيها اللحم البشري عن ملاذ.

وإذا ترجمنا هذه الأمور إلى إحصائيات مجردة، فإنه تم نزع إنسانية الفلسطينيين بشكل منتظم، وتم نزع القيمة عن حياتهم. إن جميع الضحايا المغدورين البالغ عددهم أكثر من 2300 (منهم أكثر من 836 طفلًا) منذ 28/9/2000 هم أفراد لهم هويتهم، ولهم أحباؤهم وآمالهم وأحلامهم، كل واحد منهم فريد ولا يمكن تعويضه. أما الجرحى البالغ عددهم أكثر من 43000 (أكثر من نصفهم من الأطفال) فهم الذين سيحملون الجراح والإعاقة طوال حياتهم، وسيحتاج الكثيرون منهم إلى العناية الخاصة والاهتمام والموارد التي ستثقل كاهل عائلات ومجتمعات بأكملها لأجيال قادمة. كل أنواع الموت العنيف مأساوي، لكن القسوة تتضاعف بالموت العبثي واللاضروري لأولئك الجرحى الذين مُنعت عنهم الخدمة الطبية، والذين نزف معظمهم حتى الموت، لأن سيارات الإسعاف والطواقم الطبية مُنعت من المرور، أو تم إطلاق النار عليها، أو تعرضت للقصف وبشكلٍ متعمد، وهي في طريقها لتقديم خدماتها الحيوية جدًا لهم.

أما روايتنا فقد تم نكرانها وتم إسكات شهود العيان. خلال الاجتياح الأخير للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية استهدف جيش الاحتلال الاسرائيلي أعضاء الطواقم الصحفية، فقتلوا صحفيًا إيطاليًا وجرحوا آخرين. وفي الوقت نفسه شددوا الرقابة على التغطية الإعلامية الخاصة بهم في إسرائيل. لقد جرح أكثر من خمسين صحفيًا عالميًا وفلسطينيًا، وقُتل أربعة خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية. إن الجهل المتعمد وفرض التعتيم هما عدوّا الصدق والعدل، وفي النهاية فإنهما يخدمان إطالة أمد النزاع وتدمير آفاق السلام الحقيقي.

كذلك، فإننا لسنا "مشكلة ديموغرافية" تهدد الأغلبية اليهودية أو نقاء دولة إسرائيل، كما تحاول الأيديولوجيا العرقية في بعض الدوائر في إسرائيل أن تصفنا، إننا شعب أرض فلسطين، نتمتع باستمرارية تاريخية وثقافية وإنسانية، تشكل مجموع ذاكرتنا الجمعية وتطلعاتنا المستقبلية، إن مجتمعنا كان دائمًا، ولا يزال، مجتمعًا منفتحًا ومتعددًا، يتمتع بتراث عريق من التسامح والكرم. إن الدولة التي ننوي إقامتها لن تحافظ فقط على هذه المبادئ، وإنما ستقويها ضمن قيم وحقائق كونية جديدة؛ من أجل توليد خطة شمولية تنموية قائمة على الإنسان، وأساسها راسخ في ممارسة ديموقراطية نشطة، وحكم القانون، بصفتها المتطلبات الحيوية للحكم الصالح. إن مثل هذه الدولة، دولة فلسطين المستقلة، ذات السيادة، القابلة للحياة والديموقراطية، ليست فقط حقًّا وتخليصًا من ظلم الماضي، وإنما هي وعد بالمستقبل واستثمار فيه. والقدس العربية، عاصمة لها، هي مركز حقيقة إنسانية أُعيدت لها الحياة حيث تلتقي فيها جميع القيم، والثقافات والديانات والآمال.

لكن للأسف، ومن سخرية القدر، فإن حكومة إسرائيل الحالية مصممة على العودة إلى الصهيونية الأصولية، لكن التطهير العرقي الذي اقترف ضد الشعب الفلسطيني في 1948 يجب ألا يتكرر، ولن يتكرر. إن أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" قد فُضح زيفها وإلى الأبد، ومن اللازم الآن أن يتم الاعتراف بالحل الوسط التاريخي القائم على حل الدولتين،  وهو حل تقوم بموجبه دولة فلسطين على 22% من أرض فلسطين التاريخية (أي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة أو الأراضي التي احتلتها إسرائيل نتيجة حرب 5 حزيران (يونيو) 1967). وسيكون بالتالي لدولة إسرائيل حدود محددة على 78% من فلسطين التاريخية أو على خطوط 1967 التي ستشكل "حدودًا آمنة ومعترفًا بها" والتي دعت إليها باستمرار الأسرة الدولية، ووفقًا لقرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، والتي كان آخرها وأكثرها لزومًا قرار مجلس الأمن رقم 1397.

وليس من قبيل الصدف، أيها السيد الرئيس، أن مخيمات اللاجئين الضعيفة وغير المحمية تحمّلت وزر الاجتياح والغارات الإسرائيلية الأخيرة. إن اللاجئين الفلسطينيين الذين جُرّدوا من ممتلكاتهم، وطُردوا من أرضهم، وشُتِتوا؛ هم التعبير الإنساني الضاغط عن الظلم التاريخي الفادح الذي اقتُرف بحق الشعب الفلسطيني، ومع أنهم حُرموا حتى من أكثر الملاجئ تواضعًا في مخيمات اللاجئين، فقد كانوا عاجزين أمام الدبابات التي دمرت بيوتهم ودمرت البنى التحتية البسيطة فيها، وجلبت لأحبّائهم الموت العنيف؛ وبالتالي فمن الضروري أن تتضمن أي اتفاقية سلام حلًا عادلًا وقانونيًا لمسألة اللاجئين، على أساس قرار الأمم المتحدة 194 والذي يتماشى مع القرارات الأخرى التي تشكل سابقة بخصوص الطرد القسري للسكان في زمن الحرب والنزاعات المسلحة.

والشيء نفسه ينطبق على موضوع الأرض نفسها، خاصة إذا أردنا أن نحافظ على حكم القانون الدولي، وتطبيق القانون الإنساني الدولي، وميثاق جنيف الرابع، على الأراضي الفلسطينية المحتلة. يجب وقف جميع أشكال مصادرة الأراضي، وضمها والنشاطات الاستيطانية لأي ذريعة كانت، وعلى وجه الخصوص يجب تخليص القدس من التصرف الأحادي الجانب المضر، ومن الطمع والاستلاب. نحن كفلسطينيين، طالبنا باستمرار بتطبيق قرارات الأمم المتحدة والمحافظة على الشرعية الدولية كأساس لأي اتفاقية، وكإطار لأي حل منصف.

وعلاوة على ذلك، ومنذ عَقد مؤتمر مدريد للسلام، فإن منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية رحبتا دائمًا بجميع المبادرات والتدخلات التي حاولت تحقيق حل سلمي وعادل للنزاع، بما فيها المبادرة السعودية الأخيرة، التي تجري مناقشتها حاليًا في اجتماع قمة الجامعة العربية. ولقد طالبنا باستمرار بالمراقبين الدوليين وتعاونّا مع المشاركة البناءة من قبل جميع الأطراف الثلاثة.

وللأسف، يا سيادة الرئيس، لقد سُمح للديناميكية المميتة والمأساوية للاحتلال أن تفوز، مما يهدد بخروجها عن السيطرة، وإدخال المنطقة بأسرها في فترة أخرى من عدم الاستقرار والعنف. وبينما قدم العالم العربي التزامًا إستراتيجيًا بالسلام، إلا أننا لا نزال نشاهد عقلية عفا عليها الزمن، وعجيب أمرها، لدى المتطرفين المتشددين في الحكومة الإسرائيلية التي تعاني من وهم أن التفوق العسكري هو سبب كاف للادعاء بحقوق فوقية. إن مثل هذا المفهوم يقع في أساس الصراع، إن جميع المحاولات لتشبيه الفلسطينيين (والعرب عامة) بالشياطين وإذلالهم ومعاملتهم بوحشية لن تبوء بالفشل فحسب، بل سترتد على إسرائيل نفسها.

وبالرغم من الألم والخسارة، فإننا لم نقبل أبدًا ولم نقم "بتطبيع" قتل الأبرياء، ومع أن مدنيينا الأبرياء قد قتلوا، وأفلت قاتلوهم من العقاب، إلا أننا استنكرنا باستمرار جميع المحاولات التي استهدفت المدنيين الإسرائيليين.

 السيد الرئيس، إن الاحتلال يقتلنا جميعًا، وعوضًا عن معالجة آخر انتهاك أو آخر عمل وحشي، وعوضًا عن اتهام الضحايا أو ضربهم بعنف باستمرار، وعوضًا عن تخفيض مستوى الجهود الدولية إلى مستوى إدارة الأزمات وتخفيف الأضرار، وعوضًا عن محاولة إيجاد العلاج للأعراض؛ فإنني أدعوكم لمعالجة الأسباب والجذور، لمعالجة المرض المميت نفسه، ويمكن تلخيص ذلك بالفكرة المضللة وغير الأخلاقية التي تقول إن دولة ما تستطيع أن تملي إرادتها على شعب آخر بقوة السلاح، إنه في الألفية الثانية يمكن الاحتفاظ والمحافظة على وضع كولوينالي استعبادي، إنه يمكن إخضاع إرادة الشعب الفلسطيني وكسرها بالوحشية وسفك الدماء، أو إنه يمكن إضفاء قيم مختلفة على حيوات وحقوق الناس، على أساس انتماءاتهم الدينية، وأصولهم العرقية، وهوياتهم الوطنية.

لقد حان الوقت للتحدث بجرأة في موضوع الإرهاب، أيها السيد الرئيس، حيث يجب أن يتحمل الفاعلون، دولًا كانوا أم غير ذلك، مسؤولية أعمالهم، فيما يتعلق بممارسة جميع أشكال العنف والانتهاكات ضد المدنيين الأبرياء، بهدف تحقيق مكاسب سياسية. يجب ألا يكون أي فرد أو جماعة أو شعب أو دولة رهينة لبرامج الآخرين العنيفة. وبالطريقة نفسها، لا يمكن أن يكون تعريف الإرهاب أو تحديد الإرهابيين حكرًا على الأقوياء، كما لا يمكن أن تبقى ممارسة القوة من طرف واحد، حكرًا على القوة المهيمنة، وغالبًا ما لطخت الذاتانية والمصلحة الشخصية الاندفاع لحماية الأبرياء عن طريق استسهال توزيع النعوت، والتلويح والتهديد بالصور المقولبة التي خدمت في الغالب القضايا المشوهة ومنعت الوصول إلى حلول. يجب أن يكون هناك مقاييس موضوعية ودلائل يعتمد عليها، وأدوات عالمية لتحقيق حكم القانون الدولي، على أساس من الإنصاف والمساواة.

وفي الختام، يمكن، أيها السيد الرئيس، أن نبقى سجناء بسبب الحصار المادي الوحشي، لكنه لا يمكن أبدًا محاصرة أو الحط من الروح والإرادة الإنسانية. إننا نحزن، بشكل متساوٍ، لكل من يفقد حياته وحقوقه، وإننا نسعى لتخليص المُضطَهَد والمُضطهِد على حدٍّ سواء من مقاربة الاحتلال هذه المميتة وغير الطبيعية. وفي الوقت الذي ندعوكم فيه إلى التدخل، وإلى إرسال مراقبييكم، وإلى تحضير ونشر الحقائق الصحيحة والتقييمات الصحيحة، وإلى تطبيق جميع القوانين والمواثيق ذات الصلة، وإلى تبنّي قراراتكم الفاعلة، فإننا نناشدكم ألا تصرفوا النظر عن الاحتلال نفسه؛ على أساس أنه السبب الشمولي والمنتشر لكل أنواع الانتهاكات والمظالم. وفي النهاية، سيوفر السلام العادل فقط الحل الشامل، وهذا السلام هو وحده الذي سيصبح التعبير الأصيل عن الحق الأسمى للإنسانية كلها، الحق في حياة نوعية يُغذيها الأمن والكرامة والحرية الإنسانية.