الرئيسية » خطابات الرئيس الراحل ياسر عرفات »

خطاب ياسر عرفات في الامم المتحدة في 1983 وهو موجه للثوار والشعب الفلسطيني

15 كانون الأول 2024

خطاب ياسر عرفات في الامم المتحدة في 1983 وهو موجه للثوار والشعب الفلسطيني

عام الانتصار على نتائج العدوان

بسم الله الرحمن الرحيم.
( ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾
صدق الله العظيم 

يا إخوتي الأبطال صنّاع الملاحم،
يا أهلنا كل أهلنا داخل وخارج أرضنا المحتلة،
يا جماهيرنا العربية الأبية الصادقة،
هذا العام الذي انقضى بكل ما فيه وبكل ما له وبكل متاعبه ألم يكن ينبوع الكبرياء الكبير الذي تفجّر بهذه الأمة من محيطها إلى خليجها، والذي فجرته هذه الفئة المؤمنة الصادقة، وهي في قمة الوفاء للأهداف والمبادئ والمثل، وهي في قمة العطاء والتضحية والعطاء، وعبر شلالات الدم الزكية المغراقة، وموكب الشهداء الأبرار، وعذابات ومعاناة  الأسرى والمعتقلين في السجون والمعتقلات الجماعية الأخرى؟ اخترقت دماؤنا الحجب والسدود، لتتفاعل مع جماهير أمتنا العربية ومع كل الأحرار والشرفاء في عالمنا، تصنع معه وبهم ملحمة الصمود في بيروت ومعارك الشرف في لبنان.

إنه انفجار البركان الثوري بكل عطائه وبكل نبله وبكل شموخه، والذي ولد من ضلوعه الزلزال الذي تمر به نفوس كل الجماهير في أمتنا وفي المنطقة، مسجلة للأحرار في هذه الأمة ولادة جديدة مباركة.

إنه الإيمان العميق والإرادة الفولاذية، والعزيمة الصادقة الأصيلة التي صهرتها التجربة، تدق أبواب التاريخ لتسطر على صفحاتها هذه الملاحم وتلك الأساطير.

يا جماهير شعبنا المناضلة،
يا أبناء أمتنا العربية الأوفياء،
يا ثوارنا الأشاوس البواسل،
هذا هو ما سجلته وسطرته هذه الفئة المجاهدة المؤمنة التي تصدّت بصدورها وبأجسادها للطاغوت الصهيوني الأمريكي وحيدة في خضم الأحداث، أمام المحاولات والمؤامرات والدسائس الساقطة لسحق الثورة في هذه المنطقة، نضالًا مسلحًا وموقفًا سياسيًا. ولقد حدث هذا في أخطر لحظة من لحظات التاريخ العربي، وفي وقت من أدق ما مرت به المنطقة في تاريخها المعاصر، وكأنه الشلل الذي أصاب بعض النفوس والوجدانات والضمائر، وحتى بعض العقول؛ فجمدها عن العمل والتفكير، بينما الصراع يدور على الساحة بكل قساوته ووحشيته ودمويته، وكأنه لا يعنيهم ولا يخصهم، بل إن منهم -ويا للكارثة- من حاول أن يخرج نفسه من هذه المعركة الدائرة رحاها على مجمل الخريطة السياسية العربية وامتدادتها واتساعاتها غير عابئ بما يمكن أن تتمخض عنه نتائج الصراع، طالما أن هنالك ضمانات واتفاقات لتطمين هذا الموقع أو ذاك الموقع، وبغض النظر عن المظلة التي يستظلون بها، في وقت احتدام الصراع، في ظل هذه الحقبة المصيرية من وجود أمتنا العربية، ونسوا أو تناسوا أن البركان الذي فجرته هذه الفئة المجاهدة المؤمنة الصادقة الصامدة في القوات المشتركة اللبنانية –الفلسطينية، ومعها هؤلاء الأبطال والأحرار عربًا ومسلمين وأصدقاء، نسوا هذا البركان الذي بدأ في بيروت، لن يهدأ في هذه المنطقة، وأن الزلزال بدأ يأخذ أبعاده وامتداداته على كافة الخريطة السياسية في المنطقة كلها، ليُظهر الزيف، وليكشف العورات، حيث "لم يبقَ في الملعبِ المطعون طاعنُه، ولا تبقّى لوادي الموت إلانا"
 

يا شعبنا الصامد المكافح، 
يا رفاق الدرب والمسيرة الطويلة، 
إنه القدر بكل جلاله، والمجد الذي تجلّى في هذه الملاحم في عين الحلوة، والرشيدية، والبرج الشمالي، والشقيف، وصور، وصيدا، وخلدة، والدامور، والسعديات، وبحمدون، والريحان، وكامد اللوز، والقرعون، ووقف المجد بكل التقدير والاعتزاز والفخر أمام تاريخ بيروت وأطفال بيروت ونساء بيروت ورجال بيروت، ووقف المجد طويلًا طويلًا بكل أكاليل غاره أمام الأبطال الصناديد الذين دافعوا عن بيروت، طوال الثمانين يومًا، بأجسادهم ودمائهم وأرواحهم، بينما الجحيم ينصب عليهم من البر والبحر والجو، في حمم لم تنقطع ليل نهار، تحملها أحدث أنواع القنابل والقذائف والصواريخ الأمريكية الحديثة والمتطورة، وحتى تلك المحرمة دوليًا.

لقد وضع البنتاغون الأمريكي بيد هؤلاء القتلة والمجرمين ورئيس العصابة الإجرامية قاتل الأطفال والنساء شارون، وسيده الإرهابي بيغن هذه الأسلحة الحديثة للدمار والخراب، لتكون بيروت ولبنان حقل تجارب لهذه الأسلحة الأمريكية، ولتُحدث هذا الجحيم الكبير من التدمير والقتل والقصف والتخريب.

وبالرغم من ذلك كله، لم يزد هذا الجحيم المسعور أبطالنا الصامدين المجاهدين إلا إيمانًا وثباتًا، ليصنعوا هذه الأساطير، عبر هذه الملحمة المعجزة التي صارت قممها على كل القمم.

فيا أيتها الجماهير العربية، ويا أحرار أمتنا، ويا قارعي طبول التاريخ الذين يتنفسون رياح الجنة العبقة، لقد جاء البشير، وجاء الدليل، لقد بدأت الأرض تنتفض زلزالًا، والبركان يشتعل ليزيد الثورة اشتعالًا، وتتأصل المسيرة الثورية في هذه الأرض الطيبة المباركة. فبوركتِ يا أرضنا الطيبة المباركة، وبوركتم يا أيها المجاهدون فيها، فالدماء لن تسيل هدرًا، والضحايا لن تسقط هباء، إنهم ملح الأرض على امتداد الساحة واتساعها، تحمل البشارة وتنطق بالبشرى، تتعانق مع الجماهير المؤمنة، وتتكاتف مع الأحرار والشرفاء، وتتلاحم مع الوجدان والضمير، تتألق في العقل والقلب نورًا وسدادًا وإصرارًا ومضاء. فلتطمئن أرواح الشهداء الأحبة الذين فقدناهم في ذلك الأتون الملتهب، فلتطمئن روحك أيها الحبيب البطل الشهيد الغالي ابو الوليد، ومعك هذا السرب المبارك، وهذه الكوكبة النيرّة، من عبد الله صيام، إلى زهير، إلى زكي، إلى محمد، إلى العلمي، إلى القداد، إلى القاسم، إلى آخر القافلة من هؤلاء الفرسان الشهداء الأبرار، شهداء معارك بيروت وملحمة بيروت، وحربنا الوطنية الفلسطينية.
 

يا إخوتي وأحبتي،
يا رفاق المسيرة المظفرة، 
يا شعبنا البطل المعطاء،
بهذه الروح الصافية المؤمنة والصادقة المنطلق، هدفًا ودربًا ومسيرة، يتجمع في صدر الأحداث كل هذا الزخم الثوري؛ ليزداد الإصرار، ولتبلور المزيد من هذه الأصالة عزيمتنا، وتتجذر الإرادة فينا، يحميها هذا الإيمان الصافي والعميق بكل رسوخه وصلابته. ومن هنا كان تعاملنا مع هذه الأحداث، وكان تعاملنا مع نتائجها، فنحن كنا ولم نزل وسنظل في مخاطبتنا للتاريخ نتقدم بهذه المسيرة بهذا الزخم الثوري من جماهيرنا المعطاءة الواعية، وعلى هدي المشاعل الثورية لا تزيدنا الصعاب إلا اقتدارًا، ولا تدفع بنا الخطوب إلا إلى المزيد من التمسك بأهدافنا النبيلة، ننطلق بها بخطواتنا الثابتة والقوية والقادرة على درب التحرير، على درب فلسطين، على طريق الجلجة في القدس الحبيب.

يا أهلنا الصامدين الصابرين المرابطين،
يا رفاقنا في المسيرة النضالية العظيمة،
لقد كان عامنا المنصرم يا إخوتي، يا أهلي ويا رفاقي في المسيرة والدرب، هو عام المضي بالثورة باتجاه الهدف باتجاه فلسطين، ولقد ظن العدو، عدو أمتنا وعدو شعبنا، أنه يستطيع وقف الاندفاع نحو هذا الهدف بهذا العدوان الإجرامي الكبير، هذا العدوان الذي خططت له الإدراة الأمريكية، ومدته بكل أسباب القوة وأدوات الجريمة، وغطت جرائمه بكل ما تملك من وسائل وإمكانيات، ابتداءً من الفيتو الذي استخدمه مندوبوها في مجلس الأمن، ومرورًا بالاتفاقيات التي مزقوها قبل أن يجف مدادها مع جفاف دم الشهداء في صبرا وشاتيلا، وانتهاء وليس نهاية بزيادة الدعم السنوي الذي أقره الكونغرس الأمريكي لهذه العصابة العسكرية مؤخرًا.

فلقد كانت هذه الحملة الإجرامية ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني، وبهذا الحجم الكبير، حملة مشينة مدفوعة الأجر كاملًا، من الإدارة الأمريكية للمرتزقة المجرمين في الجيش الإسرائيلي؛ لتسخير المنطقة للنفوذ الأمريكي وسيطرته، وتحاول إسرائيل بها أن تنتقل من دور كلب الحراسة إلى دور الشريك الصغير المضارب في عملية النخاسة الجارية ضد منطقتنا، وضد شعوبنا. ومما يؤسف له أن هذا التاريخ في هذه الأحداث الجسام بقدر ما كان تحديًا للأحرار والشرفاء في أمتنا وحافزًا لجميع كوامن الخير والعطاء والفداء، كان -ويا للأسف- في نفس الوقت للبعض في منطقتنا فرصة ليقدموا على مذبحها القرابين والتنازلات، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، معتقدًا ومتوهمًا أنه بذلك يستطيع أن يكون بمأمن من غضب السادة، وبغض النظر عما يدور في أرض المعركة من ملاحم طاحنة ضروس، غير عابئ بها وبنتائجها، ولكن التاريخ لا يرحم ولن يرحم، والجماهير لا تنسى ولن تنسى، وستشق هذه الجماهير طريقها في هذا الأتون الملتهب تصنع غدها المشرق، وإرادتها الحرة، بعزيمة لا تُقهر، وإرادة لا تلين.

ولقد أثبتت الأحداث ونتائجها طهر هذا التوجه الثوري الخلاق، وعمق أصالته، وكانت برهانًا ساطعًا على صدق التجربة ورسوخ المنطلق، وأعطت لجماهير أمتنا العربية العريضة أملًا حقيقيًا ونورًا يستضاء به، في هذا الصراع الذي تواجهه أمتنا، أن تكون أو لا تكون، في ظل هذه التحديات المصيرية والحضارية والتاريخية.

لقد خرج الفرسان الصناديد من بيروت المجاهدة مرفوعي الرؤوس والرايات، بنادقهم في أيديهم لا يحملون من متاع الدنيا إلا حقيبة الجندي المقدام والشريف الذي أعطى العطاء وقدم المثل والأمثولة، ثم قبّلوا بيروت، وقبّلتهم بيروت وبجباه جماهيرها وأطفالها ونسائها ورجالها.

ما كان من الممكن أن يكون خروج هؤلاء الفرسان من بيروت إلا من أجل أهلنا في بيروت، وفي سبيل تجنيبهم المزيد من الذبح والتدمير، ومن أجل أن تضيء الحياة في عيون أشبالهم وزهراتهم، خرج الأبطال يحملون الغار فوق جبينهم، يرتحلون من هذا الموقع إلى الموقع النضالي الجديد، يتعربش بهم سارية الجبل من جديد، جبلهم الحبيب، بكل الإيمان والصلابة والأصالة.

أليس الجبل في هذا الترحال إلا للمجاهدين الأبطال؟ هو هذا الشعب الرائع المعطاء، وهذه الجماهير العريضة في أمتهم العظيمة، في دفئها، وفي دفء حقيقي، يعبر عن امتنان الأمة ومحبتها، يعبر أن التفاف الجماهير وعطاءها وأملها بهؤلاء الفرسان. لقد استطاع الأبطال المدافعون عن بيروت، والمقاتلون في معارك لبنان أن يصمدوا في هذه المعارك، والملاحم أمام الجيش الإسرائيلي، وعظم قواته البرية والبحرية والجو، مع أحدث الأسلحة الأمريكية المتطورة، واستطاعوا كسر شوكة هذا الجيش وتحطيم صورته، وفشلت جميع محاولات هذا الجيش التي زادت عن سبع عشرة محاولة لاقتحام بيروت، ووقف شارون أمام صمود المدينة الباسلة تمامًا، كما وقف كل الغزاة في التاريخ أمام اسوار المقاومة.

حقًا، لقد كان ما حدث في بيروت هو الذي وضع جماهير أمتنا العربية في مواجهة واقعها الجديد، الحقيقي، دون زيف ولا لف، دون ركود، ولا وهن. لقد تساقطت أوراق التوت مع تساقط الأوراق التي حكمت واقعنا العربي، تساقطت الواحدة بعد الأخرى بعد تساقط القنابل والقذائف والصواريخ بكثافتها على بيروت، والتي تمثلت من خلال هذه الحقبة الزمية القصيرة، كل آيات الكبرياء والثقة بالنفس، والإرادة الحرة، والقرار الوطني المستقل.

لقد كانت بيروت، في حصارها وفي صمودها وفي تضحياتها وبسالتها وبطولتها، عاصمة العواصم في المنطقة، عاصمة البنادق والخنادق، ولقد كانت في حصارها تحاصر الكثيرين وفي صمودها وبسالتها، وتضحياتها، النبع الثوري الذي فجر ينابيع جديدة للعطاء، على مدى خارطة أمتنا العربية.

وهنا لا بد من كلمة من القلب، إلى هذا الشعب اللبناني البطل الذي صنعنا وإياه لأمتنا العربية هذا المجد العريق والملاحم الأسطورية، والذي اقتسمنا معه لقمة الخبز، مع لقمة البارود في مواجهة الأخطبوط الإمبريالي - الأمريكي - الإسرائيلي.

إن ما حدث لم يكن شيئًا عابرًا في مجرى الأحداث، وإنما هو إعصار في المنطقة كلها، لأن هذا العدو لا يريد فلسطين فقط، وإنما أطماعه شرهة في كل لبنان، وفي غيرها من الأرض العربية، وإن من يتعاون مع هذا العدو لن يرحمه التاريخ ولن يغفر له الشعب. 

وبالرغم من كل هذا، نقولها وفاء وعرفانًا بالجميل، يا إخوتنا، يا أحبتنا في لبنان، إننا على العهد باقون، وبمسيرة النضال المشترك ملتزمون، وإن هذه السواعد الثورية بتصرفكم وحتى يزول هذا الاحتلال البغيض، ويعود للبنان استقراره وآمنه، ووحدة أراضيه وشعبه.
 

يا أهلنا الأبطال،
يا جماهير أمتنا المكافحة،
لقد كانت هذه الاستقبالات التي انفجرت في هذه الاقطار العربية، التي احتضنت قواتنا الباسلة، خير دليل على مدى الروابط وعمقها، ومدى هذا التفاعل وأصالته بين هذه الجماهير العربية في الوطن العربي وبين الثورة الفلسطينية، وتؤكد على الحقيقة الثابتة على أن المسيرة مستمرة، والبندقية مرفوعة والأيدي على الزناد قوية، وأن هذا الرحيل ليس هجرة رابعة أو خامسة، ولكنه بناء لقواعد جديدة للثورة، وانعطاف قوي للالتحام بجماهير أمتنا العربية العظيمة. وإننا نحن ندرك إدراكًا كاملًا، لجميع أبعاد الصراع في المنطقة، الصراع الحضاري ضد الوحش الصهيوني - الأمريكي، فإننا نعرف أن بيروت ليست آخر المعارك العربية، ولكنها كانت ملحمة العرب الرئيسية بل كانت أسطورة الصمود والتحدي في مواجهة هذا الطاغوت الإمبريالي - الصهيوني الذي يحاول أن يعلق المنطقة كلها في مخالبه وبين أنيابه.

ولقد ثبت انطلاقًا من هذه المعطيات أن معارك لبنان وملحمة بيروت مركز الدائرة، على أرضية الجماهير وإرادتها، ووعيها للتاريخ العربي المعاصر سياسيًا وفكريًا وعسكريًا. ومن هذا يمكننا أن نرى بكامل وعينا وإدراكنا هذه المعارك المستمرة، وعلى أكثر من جبهة، فالمعارك سجال، بكل قسوتها وهمجيتها، وبطولاتها ونتائجها. وعلينا أن نكون مستعدين دومًا لها، ولمواجهتها بكل الظروف، وفي كل الأوقات.

وبقدر ما كانت بيروت عميقة في نتائجها، برغم الزيف والأوهام في المنطقة، بقدر ما كانت رائعة في تجسيد هذا التلاحم الثوري الخلاق، بين الأبطال في القوات المشتركة بين المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، ومعها من حوصر من قوات الردع العربية، راسمة بذلك خطًا واضحًا لمجمل المسيرة الجماهيرية العربية، وانطلقت من كبد هذه الجماهير الحقيقية الساطعة ليتعانق الأحرار والشرفاء في أمتنا العربية، يصبون جهودهم المتفجرة ينابيعها حماسًا والمتدفقة اعجازًا ثوريًا فريدًا هو نسيج وحدة. فمن انطلاق اليمن بأشطاره الثلاثة، جنوبه، وشماله، وفلسطينيه، إلى حقيقة التآخي بين جبال الأوراس وجبال النار، ومن مشاعر المحبة تهزج من جماهير السودان مع النيل الهادر، لتصب وتلتقي مع طوفان الجماهير وحماسها ووعيها وإرادتها على أرض الكنانة الحبيبة وشعبها العريق، تتقابل مع الجماهير الواعية على ضفتي الأردن، وضفاف دجلة والفرات، تتلاقى وتتعانق معها جميعها، هذه الجموع الملتفة حول قبر صلاح الدين، وخالد بن الوليدـ لتجمع معها هذا الطوفان البشري من أرض تونس الخضراء إلى الجزيرة العربية.

أليس هذا هو المعنى الحقيقي والتجسيد الواقعي للبركان الذي فجرته بيروت في المنطقة، والذي لن تتوقف أمواج زلزاله إلا عند أبواب بيت المقدس، حيث ترتفع عليه رايات أمتنا عالية خفاقة شاء الطغاة أم أبوا، رضي المستعمرون الصهاينة أم لم يرضوا، هذه إرادة الله التي يجسدها هذا الإيمان في قلب هذه الأمة، فإن لله جنودًا إذا أرادوا... وهذه الأمة العربية لا ينقصها المال ولا ينقصها السلاح، ولا ينقصها الرجال، ولا تنقصها الإمكانيات، ولا تنقصها التوازنات الإستراتيجية، وغير الإستراتيجية، ينقصها شيء واحد، ينقصها القرار السياسي بالقتال، بالقتال، بالقتال، وهذا قرار لا يمكن أن تأخذه إلا الفئة الواعية المصممة القادرة على التحدي ومواجهة الخطوب، والتي نذرت نفسها الله وللوطن وللأمة وللقضية، بهذا انتصر الأولون، وبهذا صمدت بيروت، وبهذا سنحرر أرضنا المحتلة، وقدسنا الشريف.

وليكن واضحًا وضوحًا كاملًا، ودقيقًا أن لا حل، ولا سلام، ولا استقرار في هذه المنطقة بالقفز على حقوق الأمة العربية وقضيتها المركزية قضية شعب فلسطين وحقوقه، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، عاصمتها القدس، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي كرست حربنا الوطنية شرعيتها العربية والدولية.
 

يا ثوارنا البواسل، 
يا رافعي غار النصر،
يا جماهير أمتنا العربية من محيطها إلى خليجها، 
إن العرب الباحثين عن السلام لن يجدوه إلا عبر القوة والإرادة العربية الواحدة الموحدة؛ فالسلام العادل هو سلام الأقوياء وليس سلام الضعفاء والركع، فسلام الضعفاء هو الاستسلام، وما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وإن هذه الفئة المجاهدة في الثورة الفلسطينية في داخل أرضنا المحتلة وخارجها، وهي تزداد كل يوم التحامًا ووحدة وثباتًا وتلاحمًا ثوريًا خلاقًا، بين أطفال الآر. بي. جي. في الرشيدية، وعين الحلوة، وبيروت، مع أبطالنا داخل أرضنا المحتلة، أطفال ثورة الحجارة، حجارة بلادنا المقدسة يتحدون بها الدبابات وجنازيرها والآلة العسكرية الإسرائيلية - الأمريكية وجبروتها.

هذه الفئة المؤمنة المجاهدة داخل وخارج أرضنا المحتلة، ستظل تقاوم وتقاتل الاستسلام، ومنطق الركوع والانهزام ودعاة الاستسلام والمستترين بالشعارات البراقة، أو المخفية وجوههم خلف الأقنعة، ولكننا سنظل بالرغم من كل الصعاب والتحديات حريصين على إقامة السلام القائم على العدل والشرعية الدولية، القائم على تحقيق الحقوق الشرعية لشعبنا وحقه في أن يحيا حرًا مجيدًا فوق أرضه المحررة.

بهذا الوضوح وهذه الرؤيا الصادقة وقف شعبنا، كل شعبنا، ملتفًّا حول ثورته، يعطيها ويحميها ويحنو عليها بكل الوفاء والمحبة، يذود عنها وتذود عنه؛ لتستمر الشعلة المقدسة وهّاجة، ولتبقى المسيرة قوية منيعة، وليجسد هذا الشعب الأصيل وهو عنفوان التضحية والعطاء رمزًا من الرموز الحية في تاريخ الأمم.

ولهذا كله استطاعت الثورة أن تصون قرارها العسكري والسياسي، وأن تحميه؛ لأن قرار المناضلين المجاهدين، قرار البنادق التي صمدت في بيروت، قرار الموقف السياسي الصادق الذي رسخته ملحمة الصمود في بيروت، وأخافهم منطق المعادلات، وسقطوا في لعبة التوازنات وتاهوا في الحسابات، وهذا القرار الوطني سيظل قرارًا مستقلًا مهما كان الثمن، وهو ملك لهذه الجماهير في شعبنا وأمتنا العربية، حتى لا تصبح فلسطين قميص عثمان لأحد، ولا رقمًا في جيب الكبار أو الصغار؛ لأنها ضمير هذه الأمة وعقلها ونبضها.  هذه الحقبة التاريخية في هذا الزمن العربي الصعب الذي شاء القدر أن يتحمل الثوار في ثورتنا الفلسطينية خلال هذا الزمن العربي مسؤولية تاريخية جسيمة لتجميع الطاقات، ورص الصفوف، وتكثيف الجهود العربية كلها في مواجهة الأخطار الداهمة علينا جميعًا الداخلية منها والخارجية، وفي مواجهة التحديات المصيرية المفروضة علينا.

ولقد اتخذ ثوارنا قرارهم التاريخي بالقيام بهذا الدور القومي لإعادة التضامن، وتكثيف الجهود وتمتين الملحمة، وإعادة بناء الجبهة العربية الواحدة الموحدة لمواجهة المصير الواحد المشترك، وحتى لا تقع أمتنا العربية ضحية لمؤامرة سايكس-بيكو جديدة تجري اتفاقياتها والتي تورط بها البعض خلسة بين أطراف عدة تتكالب علينا. ومن هنا فإن الولاء لفلسطين كقضية عربية مركزية هو المقياس الجماهيري الحقيقي في أمتنا العربية الهام.

والولاء لفلسطين ليس من منطلق إقليمي، ولكنه العقيدة القومية النضالية في هذه الحقبة من تاريخنا العربي المعاصر، ولهذا الولاء على الساحة الفلسطينية نفتح صدورنا وعقولنا، في ظل واحتنا الديمقراطية التي نفاخر بها، هذه الديمقراطية التي نصونها بوحدتنا وتلاحمنا، ولكن الثوار والأحرار لن يقبلوا أي بحث في هذا الولاء لفلسطين؛ لأن فلسطين هي قدس الأقداس في هذه المسيرة الثورية النضالية.

إن وحدتنا الوطنية الفلسطينية داخل وخارج أرضنا، للثوار كل الثوار للمناضلين، هي الدرع الذي يدرأ عن ساحتنا هذه الهجمات الشرسة، سواء أتت من الأعداء أو من بعض الأقرباء، إنها الصخرة التي تتحطم عليها المؤامرات في مسيرتنا الثورية الشاقة، إنها الوحدة التي صنعتها الدماء الزكية المناضلة الموحدة، التي تتسع لكل المناضلين الثوريين، وتضيق لترفض كل الذين باعوا أنفسهم وقراراهم لغير إرادة شعبنا وأمتنا العربية. فمزيدًا من هذه الوحدة الوطنية على أرضنا الديمقراطية الصلبة، مزيدًا من الالتحام الثوري وأيادينا قابضة على بنادقنا، بقوة وقناعة وإيمان، مزيدًا من التراصّ في صفوفنا المكافحة على كافة جبهات النضال، ولنعزز هذه الوحدة التي هي الدرع الذي حمى استمرارية المسيرة دومًا، قبل وبعد معركة بيروت، ثم كانت معجزتنا الثورية الثانية بعد الأسطورة - الملحمة في بيروت. هذه القدرة الفذة التي مكنتنا من الانطلاق بهذه القوة، وبهذه السرعة، في إعادة تنظيم الركب بعد أن آلمنا ما آلمنا، ولكنه الإيمان صانع المعجزات، ولكنه الإيمان والإرادة التي تشق طريقنا بهذا العنفوان الثوري.

ويكفي أن نذكر أن هذا التلاحم، وهذا التنظيم والبناء الذي كان شاملًا لجماهيرنا، داخل وخارج الوطن المحتل، ولم يكن هذا بسبب قدرة الثوار في هذه المسيرة، ولكنه إعجاز لجماهيرنا وأصالتها ووفائها لحركة التاريخ، وقدرتها على استيعاب حركة المتغيرات، وغيرتها وحرصها على وليدها الثوري في هذا الجحيم الملتهب.

فبوركْتَ يا شعبنا المعطاء البطل، وبوركَت السواعد الثورية التي تصنع المجد، وبوركَت العزائم التي تكتب التاريخ، وبوركَت أمتنا العربية، قواعد وجماهير وأحرارًا وشرفاء.
 

يا ثوارنا البواسل، 
يا جماهيرنا الوفية المناضلة المثابرة،
إن شعبنا وهو يتعامل مع كل المعطيات، من حقه أن يتوجه إلى الضمير العالمي، وإلى الأحرار والشرفاء في العالم أجمع، إلى جميع أصدقائه وحلفائه، وحتى إلى جميع اليهود في داخل إسرائيل وخارجها وفي أمريكا، وأوروبا شرقها وغربها، من حق شعبنا أن يتساءل: هل يمكن للسلام العادل أن يتحقق على أرض فلسطين وفي منطقتنا عبر المجازر التي بدأت في دير ياسين؟! وقام بها هؤلاء الإرهابييون في العصابة العسكرية الفاشية الإسرائيلية، لتصل إلى ما وصلت إليه عبر المجازر والمذابح في لبنان وبيروت، وفي صبرا وشاتيلا؟! من حق شعبنا أن يتساءل: هل يقوم سلام على جثث أطفالنا ونسائنا أو هل يمر حل على حساب شعبنا؟! من حق شعبنا أن يتوجه بسؤاله إلى شعوب العالم قاطبة، بما في ذلك شعوب الدول التي ما زالت حكوماتها تنكر الشرعية الدولية، وتنكر أبسط حقوق الإنسان الفلسطيني في تقرير مصيره، وهو الحق المقدس الكل الشعوب، ومن حق شعبنا أن يتساءل: هل هناك بعد كل الذي حدث ما يبرر الجمود والتردد في مواجهة الحقيقة التي تقول إن الشعب الفلسطيني هو ضحية الإرهاب الرسمي المنظم، وإن الواجب الإنساني، والأخلاقي، والحضاري، يُلزم هذه الشعوب وأحزابها وهيئاتها وجمعياتها وحكوماتها بأن تؤازر شعب فلسطين، للحصول على حقوقه الوطنية والمعترف بها على الصعيد الدولي وفي الأمم المتحدة؟

إن هذا هو نداء شعبنا في هذا العام لكل شعوب العالم وأحراره وشرفائه، وتحياتنا إلى جميع حركات التحرر والتحرير الوطني في العالم، وإلى كل الشعوب والدول الصديقة التي وقفت وتقف معنا، الدول الصديقة في حركة عدم الانحياز، والدول الإسلامية والإفريقية والاشتراكية، والدول الأخرى الصديقة.

يا شعبنا المناضل الصامد البطل،
يا ثوارنا البواسل،
الفجر آتٍ آتٍ، ودولتنا الفلسطينية المستقلة قادمة مهما كانت العقبات والصعاب، وهي ليست منّة أو منحة من أحد؛ فالطريق إليها قد عبق بأريج الشهداء وتضحيات الشعب وعطاء الجماهير، لتكون دولتنا هذه دولة التلاحم مع كل العرب، وخاصة تلك الوحدة القائمة مع شعبنا الأردني الشجاع.

بسم الله الرحمن الرحيم
 (إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ)
صدق الله العظيم

هذا العام يا إخوتي ويا أحبتي هو عام الانتصار على نتائج العدوان. بعد أن صمدنا وانتصرنا على العدوان فلننطلق بعامنا هذا، وكلنا ثقة وإيمان، نصنع الغد المشرق، لننطلق في عامنا هذا عام الجمرات، جمرات النور والنار والأمل.

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
صدق الله العظيم

لكم المجد، لكم المجد يا شهداءنا الأبرار!
لكم التحية والمجد، أيها المعتقلون والأسرى في سجون ومعتقلات العدو!
وطوبى للسواعد الثائرة، صانعة الانتصارات والملاحم، والبطولات!
وطوبى للجماهير المناضلة في شعبنا وأمتنا العظيمة!

وإنها لثورة حتى النصر.
أخوكم: أبو عمار1/1/1983