كلمة ياسر عرفات في القمة الإسلامية في باكستان 1997
كلمة ياسر عرفات في القمة الإسلامية في باكستان 1997
بسم الله الرحمن الرحيم
"سبحان الذي أسرى بعباده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله "
صدق الله العظيم
الإخوة أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أصحاب السيادة والمعالي،
الإخوة رؤساء وأعضاء الوفود المحترمين،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
أرجو أن تسمحوا لي في البداية أن أتوجه باسم الشعب الفلسطيني، وباسمي شخصيًّا، إلى فخامة الأخ الرئيس فاروق أحمد خان ليجاري، وإلى حكومة وشعب جمهورية باكستان الإسلامية الشقيقة، بأطيب التهاني القلبية والأخوية بمناسة احتفال شعب الباكستان الشقيق بمرور خمسين عامًا على إعلان جمهورية الباكستان الإسلامية، معربًا لكم -يا فخامة الأخ الرئيس- ولشعبكم الشقيق عن بالغ اعتزازنا وتقديرنا للتضحيات العظيمة التي قدمها شعبكم الشقيق، من أجل نيل حريته واستقلاله الوطني، ومشيدًا في هذه المناسبة السعيدة بالمكانة المرموقة التي يحظى بها بلدكم الشقيق بين بلدان العالم، وبالدور البارز والمميز الذي قمتم وتقومون به من أجل تحقيق أهدافنا السامية في دعم العمل الإسلامي المشترك، والحفاظ على وحدة أمتنا الإسلامية، والدفاع عن قضاياها العادلة، والذود عن مقدساتها ومصالحها الحيوية.
ويطيب لي يا فخامة الأخ الرئيس أن أتوجه بعظيم شكرنا وتقديرنا الكبير لجمهورية الباكستان الإسلامية حكومةً وشعبًا؛ لاستضافتها مؤتمر القمة الإسلامية في دورته الاستثنائية هذه، وللجهود البناءة والمثمرة التي بذلتموها من أجل إنجاح هذه القمة، معربًا لفخامتكم مجدّدًا عن اعتزازنا وتقديرنا العميق لحفاوة الاستقبال الأخوي الحار، في رحاب بلدكم الشقيق، ولكرم الضيافة التي غمرتمونا بها.
الإخوة رؤساء وأعضاء الوفود،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
أحييكم بتحية الإسلام، تحية المحبة والسلام، تحية القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، قدس الأقداس، ومسرى النبي محمد صلوات الله عليه وسلامه، ومهد سيدنا المسيح عليه السلام. أحييكم باسم شعبها العربي الفلسطيني، وباسم أولئك الرابضين في أكنافها، القابضين على ترابها ومقدساتها، والصابرين الذين هم في رباط إلى يوم الدين.
الإخوة رؤساء الوفود،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
كما تعلمون، فإن هذه القمة الإسلامية الاستثنائية التي يتزامن انعقادها مع الاحتفال باليوبيل الذهبي لإعلان استقلال جمهورية الباكستان الإسلامية الشقيقة، هي بالتأكيد على درجة كبيرة من الأهمية؛ نظرًا للأحداث والتطورات المتلاحقة على الساحتين الإسلامية والدولية، وبسبب التحديات الخطيرة التي نواجهها في كافة الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل النظام العالمي الجديد، وحتى لا نكون ضحايا لهذا النظام، ولكن مشاركين في صنعه وصياغته.
السادة رؤساء الوفود،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
لا شك أنكم تتابعون معنا تلك التطورات الخطيرة التي أصابت عملية السلام، والتي أدت إلى مأزق خطير بوقفها ونسف منجزاتها والإطاحة بكل الآمال التي انبعثت معها، فما إن أثمرت الجهود الجبارة في توقيع بروتوكول الخليل حتى فوجئنا بقرارات الحكومة الإسرائيلية، بشأن مؤامرة عزل القدس وتهويدها، وبناء المستوطنات الجديدة داخلها وحولها، وخديعة مؤامرة إعادة الانتشار في الضفة الغربية الذي لم يتعدّ أكثر من 2% من المساحة التي ما تزال واقعة تحت الاحتلال، بالاضافة إلى إغلاق مطارنا الدولي، وإغلاق الممر الآمن بين الضفة وغزة، والمعابر الدولية والميناء، والتي رفضت من جانبنا كلية، في الوقت الذي اعتمدت الحكومة الإسرائيلية أسلوب المماطلة والتسويف والتهرب من تنفيذ التزاماتها طبقًا للاتفاقات الموقعة؛ لإرضاء الأحزاب الدينية الإسرائيلية المتطرفة والمعادية لعملية السلام ولحقوق الشعب الفلسطيني. وقد أدت هذه السياسة المتعنتة إلى تجميد المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وأسهمت في تأزم الوضع، وزيادة حدة التوتر وتعثر المفاوضات بشكل خطير على المسار الفلسطيني.
إن قرار البناء الاستيطاني الجديد في القدس الشريف ليأتي في سياق مخطط متعمد لتهوديها، كما يهدف إلى عزلها عن الضفة الغربية من جهة، وإلى فصل شمال الضفة عن جنوبها من جهة ثانية، ولإيجاد بديل عن مدينة بيت لحم، وإقامة عازل بينها وبين القدس الشريف، وإنه قرار يهدف إلى استباق مفاوضات الوضع النهائي، وخلق أمر واقع لتدمير عملية السلام برمتها، وذلك بانتهاك صارخ للاتفاقيات الموقعة، والالتزامات والضمانات المقدمة، بما فيها خطاب الضمانات الأمريكي الذي قدم لنا في مؤتمر مدريد للسلام، وكذلك القرارات الشرعية الدولية التي صدر آخرها قبل أيام عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في تحدٍّ واستخفاف لمشاعر المؤنين الملسمين والمسيحيين، ولإرادة المجتمع الدولي بأسره. وللأسف جاء الفيتو الأمريكي ليشجع إسرائيل على استمرار عدوانها، وتحديها للشرعية الدولية.
إن القدس مدينة السلام، وهي مفتاح السلام العادل والدائم والشامل الذي ننشده، ولن يتحقق هذا السلام دون عودة القدس العربية المحتلة إلى أهلها عاصمة للدولة الفلسطينية؛ فالقدس هي فلسطينية عربية إسلامية مسيحية، وهي أهم بنود هذه القمة وجميع المؤتمرات والقمم والإسلامية، بل نذكر كذلك بهذا الخصوص، وكذلك قرارات القمم والمؤتمرات لدول عدم الانحياز، والدول الإفريقية، والقمم والعربية.
أما من حيث إعادة الانتشار، تلك الخديعة التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية، والذي لم يتجاوز 2% من مساحة الأرض التي ما زالت تحت الاحتلال، فهو يشكل انتهاكًا لما تم الاتفاق عليه، من حيث إنه يأتي في نفس سياق سياسة الإملاء، وفرض الأمر الواقع؛ مما فاقم من خطورة الأوضاع، وخاصة أن هذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات والخروقات الإسرائيلية لنصوص الاتفاقات المبرمة، والتي لم تعد خافية على أحد، خاصة أن الحصار ما زال مفروضًا من الحكومة الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني، ونخسر يوميا نتيجة لذلك الحصار أكثر من سبعة ملايين دولار، وهي خسائر تعادل أضعاف ما تقدمه مشكورة الدول المانحة لنا.
الإخوة أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
الإخوة أصحاب السيادة والمعالي،
إن سعينا لإنقاذ عملية السلام، وإعادتها إلى مسارها الطبيعي لمستمر ومتواصل، ولكن استمرارها وتقدمها بحاجة إلى شراكة حقيقة وصادقة، وهذه الشراكة تتوقف على صدق وحسن نوايا الحكومة الإسرائيلية، والتزامها بالاتفاقات المبرمة نصًا وروحًا، وإذ لا يمكن مواصلة الجهود والعمل من أجل السلام مع استمرار الاستيطان، وسياسة الإملاء، ومصادرة الأرض، وفرض الأمر الواقع، والتي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي تسببت في إلحاق الضرر بشعبنا الفلسطيني، من جراء الحصار والإغلاق والعقاب الجماعي، والخنق الاقتصادي؛ مما أدى إلى إلحاق أفدح الخسائر بالاقتصاد الفلسطيني الناشئ، وإلى تدهور الظروف المعيشية الصعبة للشعب الفلسطيني، وكذلك خرق الاتفاقات، والإصرار على تجاهل قرارات الشرعية الدولية، ونسف عملية السلام من جذورها.
لقد ذهبنا كوفود عربية إلى مؤتمر مدريد للسلام، على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، سلام الشجعان، ولكن الحكومة الإسرائيلية ترفض هذه المقولة، وتريد الأمن والسلام معنا ومع الأمة العربية والأمة الإسلامية، بل وتريد العلاقات مع الدول العربية والدول الإسلامية، ومع دول عدم الانحياز ومع العالم، على حسابنا كشعب فلسطيني، وعلى حساب الأمة العربية والإسلامية ومقدساتها في فلسطين والقدس الشريف.
فأي ثقة وأي تعاون يمكن إقامته في ظل مثل هذه السياسة الإسرائيلية المستمدة من لغة الماضي وغطرسة القوة، ومنهج الاحتلال البغيض الذي حاولنا طي صفحته بكل صدق، وتطلعا منا إلى المستقبل والوعود التي يحملها في طياته من كرامة ونِدّية وتعايش وتعاون واستقرار، وأمن متبادل.
إن الحكومة الإسرائيلية الحالية تتنكر لالتزاماتها، تتنكر للمرجعية التي انطلقت على أساسها عملية السلام، كما أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تصر على تجاوز كافة القيم والمبادىء السلمية السامية، وترفض سلام الشجعان الذي وقعناه في البيت الأبيض، تحت رعاية الرئيس كلينتون، ضاربة عرض الحائط بمبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات الشرعية الدولية، إلى جانب مواصلة تعنتها تجاه مساري التفاوض السوري واللبناني؛ الأمر الذي أدى إلى جمود هذه العملية، وتبديد الآمال بإمكانية التوصل إلى إقامة السلام سلام الشجعان، بمفهومه العادل والدائم والشامل في المنطقة.
السادة رؤساء الوفود،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
بالرغم من كل هذه العقبات والعراقيل، فإننا نواصل سعينا لأنقاذ عملية السلام، وقد قمنا بدعوة كافة الدول والأطراف الراعية لعملية السلام والموقعة والشاهدة على الاتفاقيات الانتقالية إلى مؤتمر عقد قبل أيام بمدينة غزة؛ لإنقاذ عملية السلام، وإعادتها إلى مسارها الطبيعي، وواصلنا مساعينا لتتحمل هذه الأطراف مسؤولياتها معنا في تحقيق هذا الهدف النبيل، وإخراج عملية السلام من المأزق الذي آلت إليه الأمور.
إننا إذ نتطلع إلى تضافر جهود المجموعة الدولية بأسرها، من أجل العمل على إلزام الحكومة الإسرائيلية على احترام تنفيذ الاتفاقات والتعهدات، والالتزام بمرجعية عملية السلام، فإننا نعول الكثير على قدرات أمتنا الإسلامية وإمكاناتها؛ لتكون قوة دافعة، وقوة حماية للحق الفلسطيني والعربي والإسلامي، والمقدسات الإسلامية في صميم هذه الجهود الرادعة للحكومة الإسرائيلية لوقف تجاوزاتها وخرقها الصريح لبنود اتفاق السلام، ولدعم الموقف الفلسطيني العادل ومساندته، ولمؤازرة نضال الشعب الفلسطيني في تحقيق الأهداف المرجوة من عملية السلام التي تكفل استعادته وممارسته لحقوقه الوطنية في الحرية وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وكذلك العمل على كافة المسارات الأخرى، بما فيها المسار السوري واللبناني؛ حتى يمكن إقامة السلام العادل والشامل والدائم.
إننا ندرك ما تمثله القدس وقضية فلسطين في ضمير أمتنا الإسلامية و وجدانها وعقيدتها، فقد بقيت هذه القضية في طليعة قضايا الأمة، وعلى رأس جدول أعمالها، وفي صلب اهتمامها وعنايتها، فلا سلام بدون القدس الشريف.
وإني من على هذا المنبر أقول لقادة أمتنا الإسلامية ولشعوبها: إن القدس الشريف وما حولها هي أمانة وضعها العلي القدير في أعناقنا، وإن انقاذها من غول الاستيطان، وخطر التهويد والمصادرة هو فرض عين علينا جميعًا، لذا؛ أدعوكم للعمل الجاد والعاجل لإنقاذها، وتوفير كافة الإمكانيات لتعزيز صمودها، والحفاظ على طابعها التاريخي والحضاري والديني، وأذكركم هنا ما أقدمت عليه الحكومة الإسرائيلية بفتح النفق تحت السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك، والذي سبب موجة غضب وسخط عمت كافة أرجاء الوطن لدى الشعب الفلسطيني؛ لأنه شكل اعتداءً صارخًا على قبلة المسلمين الأولى، وعلى المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولقد سقط لنا في هذه المواجهات مع الجيش الاسرائيلي أكثر من ألفي شهيد وجريح.
إن الخطر الداهم يدعونا إلى الإسراع في مراجعة موقفنا جميعا، والعمل على محاصرة السياسة الإسرائيلية العدوانية المتمادية، واتخاذ إجراءات توفر مصداقية وفاعلية لدولنا الإسلامية؛ كي لا يشعر الطرف الآخر بأن عاصمتنا الروحية كمسلمين سهلة المنال، وممكنة الابتلاع.
إنني في النهاية أدعوكم إلى تشكيل لجنة خاصة، تمثل مؤتمرنا هذا، إلى وضع الأفكار والاقتراحات الملائمة لتفعيل دور مؤتمرنا الإسلامي، لمتابعة الموقف، خاصة وأننا بصدد اجتماع وشيك للجنة القدس التي لا بد وأن تتضافر جهودنا جميعا لإنجاحها، ودعم الجهود المباركة التي يبذلها رئيسها ورئيس القمة الإسلامية جلالة الملك الحسن الثاني، وكذلك الجهود التي يبذلها الرئيس حسني مبارك رئيس القمة العربية، والجهود التي يبذلها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، ومعه القادة العرب والمسلمون جميعهم.
إننا -أيها الإخوة- أمام تحد خطير، وفي مواجهة مرحلة بالغة الخطورة، إنه الامتحان المصيري الذي يستدعي نهضة الأمة المقتدرة والقادرة على مجابهة متطلبات هذه المرحلة، بكافة استحقاقاتها. وباسم الشعب الفلسطيني أناشدكم، وأناشد ضمائركم، بأن تسموا فوق أي خلاف، وأن نوحد الكلمة والموقف والجهد، داعين بإخلاص أن يوفقنا المولى سبحانه في إنقاذ القدس الشريف، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومهد سيدنا المسيح عليه السلام.
"وليدخلو المسجد كما دخلوه أول مرة"
"إن الله لا يخلف وعده"
صدق الله العظيم
السادة رؤساء الوفود،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
إنني إذ أتوجه إليكم مجددا بالشكر والتقدير العميق، لما تبذلونه من جهد مخلص من أجل رفعة أمتنا الإسلامية، واستمرار تقدم وازدهار بلدانها الشقيقة، لأعرب لكم عن أملي وثقتي، بأن تتكلل أعمال مؤتمرنا بالنجاح الذي يجسد الأهداف السامية لمنظمة المؤتمر الإسلامي، تلك الأهداف المستمدة من روح الإسلام العظيم، ومبادئه الإنسانية النبيلة.
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"
صدق الله العظيم
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته