كلمة ياسر عرفات في مهرجان الشعر الدولي الرابع المنعقد في القدس 1997
كلمة ياسر عرفات في مهرجان الشعر الدولي الرابع المنعقد في القدس 1997
السيدات والسادة،
الأدباء والكتاب والمبدعون،
الشعراء والشاعرات،
الضيوف والحضور الكرام،
تحية طيبة، وبعد،
بداية، إنه لمن دواعي بهجتنا وسعادتنا أن نتوجه إليكم باسم الشعب الفلسطيني، وباسم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، وباسمنا شخصيًّا، بأسمى معاني التحية والتقدير، مرحبين بكم ضيوفًا كرامًا تحلّون على وطننا، وراجين لمهرجانكم، مهرجان الشعر الدولي الرابع، الذي تناديتم لانعقاده في مدينة القدس مدينة السلام، كل التوفيق والنجاح.
إن انعقاد مهرجان الشعر، بمبادرة من رابطة القلم الفلسطيني، تحت شعار "الأدب من أجل الحرية والسلام" ليوحي لقارئ هذه العبارة بدلالة مفادها بأن الأدب سيكرس للدفاع عن الحرية والسلام. مثل هذا الفهم يقود بلا مواربة إلى الحديث عن الالتزام، والأدب والشعر الملتزمين، ولكن عن أي التزام نتحدث؟ فالالتزام نجد منه ألوانًا وألوانًا، غير أن من وضعوا الشعار لمؤتمركم حددوا التزام الأدب بقيمتين إنسانيتين ساميتين، هما: الحرية والسلام، هما -ولا ريب- من أسمى القيم الإنسانية التي لا يمكن للإبداع الذي يريد لنفسه البقاء والخلود إلا أن يتشبث بهما ويدافع عنهما، ولَكَم دفع الشعراء والمبدعون من حياتهم في سبيلهما الكثير، بدءًا من الشاعر الإسباني العظيم فيديريكو غارسيا لوركا، وانتهاءً بشاعرنا الفلسطيني المرحوم راشد حسين، ولعلها من المفارقات العجيبة أن كلا منهما لا يُعرَف لقبره مكان، فوحّد بينهما مصيرهما الواحد، وتوقهما للحرية والسلام، وشغفهما بالكلمة الشعرية الموحية والمعبرة، فكان الثمن الباهظ أن دفعا حياتهما على مذبح هاتين المعشوقتين، فلنناضل جميعًا حتى لا تتكرر هذه التراجيديا للشعر والشعراء مرة أخرى، وحتى تبقى الكلمة الحرة النبيلة السامية الشفافة سيفًا مسلطًا في وجه أعداء الحرية والسلام.
وتدركون -أيها الأصدقاء والضيوف والإخوة والأخوات- وأنتم تعقدون مؤتمركم الشعري هذا أن هاتين القيمتين هما ما يتطلع إليه شعبنا الفلسطيني، فمنذ قرن من الزمان وهو يخوض كفاحه الوطني، من أجل نيل حريته واستقلاله وسيادته؛ لكي يعيش بسلام على أرض وطنه.
ولا يخفى عليكم ما تمر به عملية السلام من مأزق خطير، بسبب السياسات التعسفية، والممارسات العدوانية، والإجراءات العقابية الجماعية التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية ضد شعبنا الفلسطيني، والمتمثلة في الإغلاق والحصار الاقتصادي، وحجز وتجميد الأموال المجبيّة من الضرائب والجمارك التي يدفعها أبناء شعبنا، والمستحقة للسلطة الوطنية الفلسطينية في البنوك الإسرائيلية، هذا إلى منع منتوجاتنا من التصدير للخارج، وتعطيل حرية الحركة والتنقل بين غزة والضفة الغربية، وإغلاقهما، وعزل المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها البعض، فيما يسمى بالإغلاق الداخلي، وإقامة الحواجز في كافة المناطق الفلسطينية، والتنكيل بالمواطنين الفلسطينيين، وما زالت تتمادى في هدم البيوت الفلسطينية، ومصادرة الأراضي، وإقامة وتوسيع المستوطنات عليها، ضاربة عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، وشرعة حقوق الإنسان، واتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين زمن الحرب، والاتفاقيات المبرمة بيننا، ومبرجعية عملية السلام، ومبدأ الأرض مقابل السلام.
وتعلمون كذلك بأن السلام سلام الشجعان هو خيارنا الإستراتيجي الثابت، الذي لا رجعة عنه، والذي سنبقى نعمل من أجل تحقيقه، وبما يضمن لشعبنا الفلسطيني حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف في الحرية والعودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
وإننا نهيب بكم -أيها الشعراء والأدباء والكتاب- عمل جل ما بوسعكم، ومعكم كل محبي الحرية والعدل والسلام والديمقراطية في العالم لحمل الحكومة الاسرائيلية على الالتزام الدقيق والأمين بتنفيذ كافة الاستحقاقات المترتبة عليها، والاحترام لقرارات الشرعية الدولية والمواثيق والأعراف الدولية؛ حتى يتسنّى لنا إقامة السلام الشامل والعادل والدائم.
وإن فلسطين التي تحلّون ضيوفًا على أرضها وتجتمعون في القلب منها، في مدينة القدس عاصمتها الأبدية، وكان لها -ولا زال- باع طويل في الإبداع الأدبي والشعري والفكري عبر العصور، ولم تتوقف حركة الإبداع الشعري فيها، في كل الأزمان، وإن كانت قد مرت ببعض الركود في حقبة ما، إلا انها مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، شهدت نهضة أدبية وشعرية، أخذت تنمو وتزدهر، وما زالت حتى اليوم تمضي في تألقها، مانحة حركة الشعر العربي الحديث والمعاصر الشعر العالمي أسماء لامعة، تحظى باحترام وتقدير كبيرين، ولن أشير إلى تلك الأسماء فهي غنية عن التعريف، وأنتم معشر الشعراء والأدباء أدرى بها وتعرفونها.
ونحن إذ نرحب بكم في وطننا فلسطين، لننظر بالكثير من التقدير لنتاجاتكم وإبداعاتكم الشعرية والأدبية، مؤمنين بأهمية بل وضرورة التلاقح الثقافي والحضاري بين الشعوب والثقافات والأمم؛ لما في ذلك من أثر وتنوير للنفوس والعقول، وخدمة لقيم السلام والحرية والعدل والتفاهم، وحينما نرجع بذاكرتنا إلى الوراء تلمع في الذهن مقولتان نتفق مع إحداهما، وهي أن " الشعر ديوان العرب"، ونختلف مع الأخرى، والتي تقول "أعذب الشعر أكذبه"، بل نقول بأن "أعذب الشعر أصدقه"، وحينما نتحدث عن الصدق فإننا نعني بذلك الصدق الفنّي، والذي يعبر عن مشاعر المبدع وأحاسيسه، ورؤاه وآماله، وأشجانه وأفراحه وأتراحه وتطلعاته، وتوقه المتجدد للحرية والسلام، ولحياة أفضل، وهذه القيم كلها يشاطره إياها القرّاء والمتلقّون، وعلى اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الثقافية والفكرية، بل وأحسب أن الشاعر والمبدع الحق هو ذاك الذي تتماهى صورته في صورة المجموع، دون أن تضمحلّ أو تذوب فيها، وإنما تحافظ على توهجها وبريقها وجاذبيتها وخصوصيتها وبقائها، خالقة بذلك نوعًا من جدلية التوحد والتفرد في آن واحد معًا، وإذا كانت الحياة كلها تقوم على التضاد والتناقض والتأرجح ما بين الثابت والمتحول، فإن الحرية والسلام هما قيمتان ثابتتان لا يغيرهما التحول والزوال، وتبقيان تاجًا يزين جبين كل إبداع ومبدع أصيل.
وفي الختام، نجدد ترحيبنا بكم، متمنين لمهرجانكم التوفيق والنجاح، ولكل منكم المزيد من الإبداع الشعري الخلاق، من أجل الحرية والسلام، وكرامة بني الإنسان.
وتفضلوا -أيتها السيدات والسادة- بقبول أمنياتي لكم بالصحة والسعادة والتوفيق، مقرونة بصادق مودتي واعتباري، آملين أن نحتفل بملتقاكم الشعري الخامس ونحتفي بكم في العام القادم وقد نعم شعبنا الفلسطيني بالحرية والسيادة والسلام، على أرض وطنه، وطن المحبه والحضارة والسلام.